النهار - المحور الإسرائيلي - التركي مقلوباً رأساً على عقب

يرى مراقبون كثر أن التداعيات الطويلة الأمد للهجوم الإسرائيلي الدموي في 31 أيار على سفينة "مافي مرمرة" التركية التي كانت جزءاً من "أسطول الحرّية" المتوجِّه إلى غزة، على العلاقات الإسرائيلية-التركية غير واضحة.
لقد أسفر الهجوم عن مقتل ثمانية أتراك وأميركي-تركي وإصابة العشرات بجروح. وكان الأسطول قد انطلق لكسر الحصار غير الشرعي الذي فرضته إسرائيل على غزة وتحفيز الوعي العالمي حيال معاناة 1.5 مليون فلسطيني يعيشون في ما يُجمع كثر على وصفه بالسجن المفتوح الأكبر في العالم.
على الرغم من الإقرار بالتصدّع المتنامي بين إسرائيل وتركيا الذي بدأ في خضم الاجتياح الإسرائيلي لغزة في كانون الأول 2008، كما يُظهر تصادم رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان مع الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريس خلال حوار عن غزة في قمة المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس في سويسرا في كانون الثاني 2009، يشير كثرٌ إلى تقليد الروابط القوية بين إسرائيل وتركيا ويقدّمونه إثباتاً على أنّ الأزمة الراهنة في العلاقات الإسرائيلية-التركية تشكّل انتكاسة موقّتة وليس إعادة اصطفاف دائمة في النظام الإقليمي.
نظراً إلى سجلّ العلاقات الإسرائيلية-التركية، يبدو منطقياً الاستنتاج بأنّ التقاء المصالح المتبادَلة سوف يتجاوز الأزمة الثنائية. لقد طوّرت إسرائيل وتركيا علاقة استراتيجية على مرّ السنين في المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية. على الرغم من أنّ تركيا أعلنت أنها ستعيد النظر في علاقتها العسكرية مع إسرائيل، بما في ذلك شراء اسلحة اسرائيلية حالياً ومستقبلاً وأشكال أخرى من التعاون، فإنّ الخلاف الحالي لم يحل دون إتمام التسليم المقرَّر لطائرات من دون طيار إسرائيلية الصنع طراز "هيرون" والتكنولوجيا الداعمة لها كجزء من صفقة بقيمة 190 مليون دولار أميركي. وقد وصل وفد عسكري تركي إلى إسرائيل في أواخر حزيران لاختبار الطائرات من دون طيار عقب القرار الذي اتّخذته إسرائيل بسحب طاقمها العسكري من تركيا إثر الخلاف الديبلوماسي. وعلى جبهة التجارة، أدّت المقاطعات الاستهلاكية الإسرائيلية التي استهدفت الاقتصاد التركي وتحرّكات مماثلة من الأتراك موجّهة ضد الاقتصاد الإسرائيلي، إلى تراجع حجم التجارة الثنائية الذي يصل عادةً إلى نحو ثلاثة مليارات دولار سنوياً.
فعلى سبيل المثال، عمل آلاف السياح الإسرائيليين بنصيحة حكومتهم وألغوا رحلاتهم لتمضية العطلة في تركيا عام 2010. كما عمد عدد كبير من المتاجر الإسرائيلية إلى إفراغ رفوفه من المنتجات التركية. وبالمثل، تخلّى عدد من الشركات التركية عن خطط الدخول في مشاريع مشتركة مع الشركات الإسرائيلية. فقد جرى مثلاً تعليق مجموعة من مشاريع البناء والطاقة التي تتولاّها شركات تركية تتعاون مع الإسرائيليين، بانتظار مزيد من إعادة النظر، أو ألغيت كلياً. على الرغم من هذه الخطوات، هناك مؤشّرات بأنّ التعاملات في مجال الأعمال بين إسرائيل وتركيا لن تتأثّر في الجزء الأكبر منها. كما فُسِّرت التقارير التي جرى تسريبها عن محادثات سرّية بين وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو ووزير الصناعة والتجارة والعمل الإسرائيلي بنيامين بن اليعازر في بروكسل في أواخر حزيران، بأنّها مؤشّر على أنّ المصالح الوطنية والبراغماتية سوف تسود في النهاية، وليس التدهور المستمرّ في العلاقات.
إذا وضعنا الإشارات الملموسة عن مصالحة تلوح في الأفق بين إسرائيل وتركيا جانباً، ثمة مؤشّرات أيضاً بأنّ التشنّجات سوف تستمرّ في
الانحسار.
يعكس استدعاء تركيا لسفيرها في إسرائيل وتهديدها بقطع العلاقات معها بسبب رفضها الاعتذار عن الهجوم الدموي على الأسطول والقبول بتحقيق دولي مستقل في الحادثة، حجم التدهور في العلاقات، وكذلك الأمر بالنسبة إلى التهديدات الإسرائيلية بالاعتراف بالإبادة الأرمنية التي ارتكبها الأتراك العثمانيون عام 1915، والجهود الحثيثة التي يبذلها داعمو إسرائيل في الولايات المتحدة للحصول على اعتراف بالإبادة في واشنطن – الأمر الذي تعتبره تركيا خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه. كما اتّهم المسؤولون العسكريون والحكوميون الأتراك إسرائيل بتوفير الدعم لمقاتلي "حزب العمال الكردستاني"، بما في ذلك خلال هجوم شنّه الحزب في 31 أيار على قاعدة بحرية في إسكندرون أسفر عن مقتل سبعة جنود وإصابة ستّة آخرين بجروح.
حصل هجوم "حزب العمال الكردستاني" قبل ساعات فقط من الهجوم الإسرائيلي على الأسطول. في هذا السياق، يبدو وكأن الدعم الإسرائيلي لـ"حزب العمال الكردستاني" هو شكل من أشكال الانتقام من الدعم التركي للفلسطينيين. لم تظهر أدلّة تدعم المزاعم التركية عن وجود يد إسرائيلية خلف هجوم "حزب العمال الكردستاني" في إسكندرون. تقيم إسرائيل علاقات وثيقة مع فصائل مختلفة في كردستان العراق – الذي تنطلق منه عمليات "حزب العمال الكردستاني" ضد تركيا – حيث تملك حضوراً استخبارياً كما هو معلوم. وتملك الشركات الإسرائيلية أيضاً مصالح واسعة في مجال الأعمال في هذا الإقليم العراقي.
ثمة مؤشرات أيضاً بأن أزمات إضافية متعلّقة بالأساطيل تلوح في الأفق، وعلى الأرجح أنه سيكون للأتراك من جديد دور بارز في هذه الجهود. وقد دعا الإسرائيليون من جهتهم إلى تشكيل أسطول بقيادة إسرائيل يتّجه إلى تركيا للاحتجاج على محنة الأكراد فيها وكذلك على موقف أنقرة من الإبادة الأرمنية وشمال قبرص. وينوي منظِّمو "أسطول الحرية" الذي توجّه إلى غزة، إرسال بعثات إضافية لكسر الحصار وتأمين المساعدات الإنسانية في الأشهر المقبلة. كما انطلق عدد من المجموعات الناشطة المستقلّة في مهمّاته الخاصة إلى غزة.
تشير تحوّلات مهمة في النظرات الاستشرافية الاستراتيجية والمجتمعات في كل من إسرائيل وتركيا، إلى أن العداوات في العلاقات الإسرائيلية-التركية لن تتبدّد قريباً.
التوقّف عند "استراتيجيا الأطراف" الإسرائيلية أمر أساسي لفهم الوضع الراهن للعلاقات الإسرائيلية-التركية. هذه الاستراتيجيا هي مبدأ موجِّه للسياسة الخارجية الإسرائيلية منذ إنشاء الدولة الإسرائيلية عام 1948.
لقد سعت إسرائيل إلى بناء تحالفات رسمية وكذلك سرّية مع بلدان غير عربية وأقليات إتنية ومذهبية حول أطرافها لتطويق الدول العربية المعادية لها – ولا سيما مصر وسوريا ولبنان والعراق والسودان والحركة الوطنية الفلسطينية – وللتصدّي لتأثير القومية العربية.
بما أن تركيا هي أول دولة مسلمة اعترفت بإسرائيل عام 1949، لقد كانت جزءاً أساسياً من استراتيجيا الأطراف، إلى جانب إيران في عهد رضا شاه بهلوي، وأثيوبيا في عهد هيلا سيلاسي، والقوميين الأكراد في العراق، والمسيحيين الموارنة والدروز في لبنان، والمسيحيين في جنوب السودان، والمجتمعات اليهودية في مختلف أنحاء المنطقة.
نظراً إلى توجّه إسرائيل العلماني جداً والموالي للغرب تقليدياً، وعضويتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وتطلّعاتها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، تحوّلت روابطها مع تركيا واحدة من العلاقات الأكثر دينامية في المنطقة.
وقد ازدادت أهمية العلاقات الإسرائيلية-التركية إلى حد كبير بعدما أطاحت الثورة الإيرانية الشاه عام 1979. هنا تكمن أهمية التصدّع في العلاقات الإسرائيلية-التركية؛ فالهجوم الإسرائيلي على الأسطول كان مؤشراً عن تخلّي إسرائيل عن حلفها الاستراتيجي مع تركيا. ويبدو أيضاً أن إسرائيل ذهبت بعيداً جداً في سعيها إلى إذلال تركيا، وهو واقع من المؤكّد أن أنقرة لن تنساه قريباً.
قيل الكثير عن صعود تركيا كقوة إقليمية وتحسّن مكانتها في العالم الإسلامي الأكبر. بالفعل، تستسيغ تركيا موقعها الذي يجعل منها رمزاً للمقاومة ومدافعةً عن الفلسطينيين في عيون العرب والمسلمين في الشرق الأوسط.
فتركيا التي لطالما أقصاها الاتّحاد الأوروبي والتي تشعر بأنها تعرّضت للخيانة من حليفتها، الولايات المتحدة، بسبب دعم الأخيرة للطموحات السياسية الكردية في كردستان العراق – وهو تطوّر اعتبرت تركيا بأنّه يطلق سابقة خطيرة سوف يسعى القوميون الأكراد على أراضيها إلى التمثّل بها – تركيا هذه التي تزداد ثقة بالنفس وتوكيداً للذات أطلقت مساراً جديداً في السياسة الخارجية يبتعد عن دورها السابق كصديقة لواشنطن وبروكسل موثوقة وقابلة للتوقّع.
لا شك في أن عناصر المسرح السياسي موجودة في محاولة تركيا تصوير نفسها بأنّها قائدة إقليمية ونصيرة للقضية الفلسطينية. فضلاً عن ذلك، وعلى الرغم من التحوّل الملحوظ في خطاب أنقرة وتصرّفاتها، لا تزال تركيا حليفة قيّمة ومقرّبة للولايات المتحدة و"الناتو"، وكذلك طامِحة ملتزمة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
في الوقت نفسه، وبتحفيز من المشهد السياسي الداخلي الذي يزداد استقراراً والاقتصاد المتوسِّع الذي يستمرّ في سلوك اتجاه تصاعدي حتى في خضم التراجع الاقتصادي العالمي، يعكس التحوّل الذي تشهده السياسة الخارجية التركية في الأعوام الأخيرة بقيادة "حزب العدالة والتنمية" المعتدل والإسلامي التوجّه بزعامة أردوغان، تبدّلاً جوهرياً في نظرة تركيا الاستشرافية.
وتثبت تركيا نفسها أيضاً وسط تراجع النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط وخارجه، وظهور تعدّدية قطبية جديدة تتّسم بصعود قوى إقليمية قادرة على ممارسة تأثيرها على الساحة العالمية. وفي حين تحتفظ تركيا بتوجّهها الغربي، تحتضن اليوم علناً إرثها الإسلامي وجيرانها المسلمين، بما في ذلك أعداؤها السابقون مثل سوريا التي تعتبرها الآن شريكاً استراتيجياً.
لا ترى تركيا في الجوهر، بدافع من فلسفة "انعدام المشكلات مع الجيران"، أي تناقض في الإبقاء على قدم راسخة في الغرب بينما تعيد إرساء روابط اقتصادية وديبلوماسية وثقافية وثيقة، وبصورة متزايدة روابط عسكرية، مع البلدان التي كانت تقع ضمن سيطرتها الإمبريالية السابقة على حدودها الجنوبية والشرقية.
كذلك أثّرت التغييرات في المجتمع التركي التي تتّسم بالشعور المتنامي بالهوية المسلمة الجماعية، في إعادة دوزنة السياسة الخارجية التركية. وصعود "حزب العدالة والتنمية" هو جانب أساسي في هذه النزعة. يعكس الرأي العام التركي حساسية عميقة حيال معاناة الفلسطينيين الذين يعيشون في ظل الاحتلال العسكري الإسرائيلي. نتيجةً لذلك، يجب قراءة موقف أنقرة من الهجوم على الأسطول ومقاربتها للتعامل مع إسرائيل والفلسطينيين، بأنّهما وليدا الرأي العام؛ وهي نقطة مهمّة يجب عدم تجاهلها نظراً إلى المشهد الديموقراطي في تركيا.
فخلافاً للأنظمة السلطوية المتصلّبة على غرار تلك الموجودة في مصر والأردن التي تقمع التعبيرات الشعبية عن دعم الفلسطينيين وأشكالاً أخرى من النشاطوية، يتعيّن على الديموقراطية التركية، على الرغم من كل عيوبها، أن تأخذ الرأي العام في الاعتبار. قد تندم إسرائيل – التي تزداد عزلة في الشرق الأوسط وعلى الساحة الدولية – على اليوم الذي تخلّت فيه عن تركيا. فعلى الصعيد الاستراتيجي، تحتاج إسرائيل اليوم (ولاحقاً) إلى تركيا أكثر بكثير مما تحتاج الأخيرة إليها.
لم تنتهِ الأزمة في العلاقات الإسرائيلية-التركية. في الواقع، ربما بدأت للتو. سوف تستمر الروابط الثنائية على مستويات عدّة، ولا سيما في الميدان الاقتصادي. وسوف تبذل الولايات المتحدة أيضاً جهوداً حثيثة للمساعدة على تحقيق المصالحة بين البلدَين.
في الوقت نفسه، تكبّد الجانب العسكري الاستراتيجي في المحور الإسرائيلي-التركي – الوجه الأكثر أساسية في العلاقة – أضراراً لا تعوَّض. لكن مثلما تُظهر العلاقة بين الولايات المتحدة والصين، يمكن أن تتعايش روابط تجارية قوية وصلات أساسية أخرى مع تصدّعات وخلافات جدّية حول مجموعة من المسائل العسكرية الاستراتيجية.
لقد أصبحت إسرائيل، هذه القوة الإقليمية التي تتمتّع بدعم غير مشروط ظاهرياً من واشنطن، معتادة على التعامل مع الجيران الضعفاء والمذعنين في شكل عام الذين سمحوا لها بأن تصوغ الأحداث في بيئتها بما يتناسب مع مصلحتها. تبدو تركيا الآن قادرة ومصمِّمة على تحدّي هذا الاستاتيكو بثبات واطّراد.
النهار - كريس زامبليس - 9 - 8 - 2010