المقص: غرائب وطرائف

حكيم المرزوقي . بلدنا
لا أحد منا ينكر علاقته مع المقص, فلقد عرفناه في زمن الطفولة صغيراً بين أصابعنا الطرية الناعمة, يقص الصور والأوراق الملونة ثم يعود ليرقد ببراءة في المحفظة المدرسية بين الأقراص والأعواد وأقلام التلوين. احتفظ المقص ومشتقاته المختلفة الأحجام والأشكال بتلك البراءة في أذهاننا، ونحن نراه ناعماً ساعة، وهو يشذب شارب الجد الكثيف، وضخماً ساعة أخرى، وهو يفعل الفعل ذاته في أغصان الشجرة الوارفة.
ظل المقص كائناً مطواعاً وخدوماً وذا جاذبية، خاصة في مختلف الأعمال المنزلية والاحتياجات البشرية، عندما نراه يبرق بين أصابع حلاق داخل شعر دامس أو يلمع تحت الأضواء ودوي التصفيق وهو يقطع شريطاً حريرياً إلى نصفين.
ظل كذلك إلى أن كبرنا واكتشفنا وظيفة أخرى للمقص تجاوزت رهبة الختان, ألا وهي الرقابة...
مقص الرقيب وهمي في حقيقة وجوده المادي، ولكنه ذو سطوة مرعبة لدى المنشغلين في حقول الفن والكتابة عبر التاريخ وفي مختلف أصقاع الدنيا ولكن بدرجات متفاوتة وبأساليب مختلفة؛ فما يقص بالكامل في بلد معين يقص فقط نصفه أو ربعه في بلد آخر.
نكاد نجزم القول بأن الرقابة شر لا بد منه. فلكل بلد تابوهاته بما فيها الغرب الأوروبي والأمريكي ولا وجود لحرية مطلقة في هذا العالم، ولكننا نهمس في آذان المسؤولين في البلاد العربية:»إننا لا نسألكم إلغاء «القص» والرقابة وإنما نسألكم اللطف والتفهم والرحابة.»
أغرب ما يميز مقصاتنا العربية، أنها ذات أمزجة غريبة لا تحكمها أي ضوابط، كأن تضيف نفسها الى قائمة المحظورات، فتمنعك من مجرد التطرق إليها وكأنها غير موجودة..! وقد تشكرك حين تثني على مرونتها بقولها ضمنياً: «شكراً، لأنك قلت عني إني غير موجودة».
قصص الرقابة وموظفيها في عالمنا العربي لاتنتهي. فهذا كاتب منع بنفسه كتابه من التداول، ثم عاد ليعدل من محتواه وذاك موظف منع أفراد أسرته من مشاهدة برنامج تلفزيوني يظنه محظوراً. أما الأشد غرابة، فهو شاعر أعفاه الله من الموهبة واستشاط غضباً حينما لم تمنع الرقابة باكورة أعماله الشعرية المفلقة وحرمته من نجومية كان يحلم بها في الأوساط الإعلامية والمقاهي الأدبية.
هكذا يظلم الإبداع الحقيقي، حينما تغيب القيم الفنية لدى هيئات الرقابة وتنعدم الكفاءات لتحل محلها النوايا التشكيكية والتوجسات الوهمية، فتكرس الرداءة ويُصنع لها أبطال وشهداء لهم جمهرة من المعجبين والقراء لاهمّ لهم سوى ملاحقة ما منعته الرقابة من النشر والظهور.
بعض موظفي الرقابة أيضاً لا يريدون أن يطقطقوا بمقصاتهم في الفراغ، فهم يقبضون رواتب ومكافآت وعليهم ألاّ يتركوا مقصّاتهم تصدأ من قلة الاستعمال، فتراهم كلما مثل على طاولتهم مخطوط انهالوا عليه قصاً وشطباً ومحواً...إنهم يذكّرون بقصة السيد عبد الرحمن الذي اشترى من السوق بنطالاً طويلاً واحتاج إلى خياط كي يقصه و»يكفه»على مقاسه، لكنه فكر في الأمر، فوجد أنه من المناسب أن يشتري مقصاً، ويعود إلى البيت فيكلف أحد أفراد الأسرة بهذه المهمة مقابل هدية صغيرة.
طلب عبد الرحمن من زوجته فعل ذلك، ولكنها كانت مشغولة,عرض الأمر على شقيقته فوجدها تشارك زوجته في أعمال البيت, قصد أمه فطلبت منه تأجيل ذلك الى وقت لاحق,
أقدم عبد الرحمن بنفسه على قص الجزء الزائد من أسفل البنطلون مستغنياً عن خدمات الجميع ومستعيناً بالمقص الجديد الذي ابتاعه لتوه من السوق.
في صباح اليوم التالي، استيقظ عبد الرحمن مبتهجاً وأمسك بالبنطلون يريد ارتداءه، فوجده «شورت»!...لقد تناوب على قصّه في غيابه كل من الزوجة والأخت والأم ظناً من كل واحدة أنها الأسبق في إنجاز المهمة، وكان ذلك طمعاً في الهدية واحتفالاً بالمقص الجديد ...والأهم من ذلك كله حباً بعبد الرحمن..!
عندما كنا تلاميذ صغاراً، كنا نهرب من المذاكرة وإعداد الوظائف إلى اللهو بالمقصّات الصغيرة، لأن ذلك أهون من عناء الكتابة والقراءة وتشغيل الذهن.