اميركا تنهي حرب 9 سنوات تاركةً العراق ممزقاً يواجه مستقبلاً غامضاً

في سوق مكتظة وسط المدينة هنا، بقايا الحرب معروضة للبيع. وجبات الطعام الجاهزة، المعكرونة والجبن "على الطريقة المكسيكية". حافظات المسدسات. لا يبدو أي شيء خارجا عن المألوف بالنسبة إلى التجار الباحثين عن دنانير سريعة، ولا حتى عبوة من حبوب الدواء من صيدلية في واكو بولاية تكساس، رماها على الأرجح جندي مغادر.
الجدران الخرسانية التي كانت تحمي أكشاك التسوق من الانفجارات اختفت اخيراً، ومنذ ذلك الحين، ضربت ثلاثة انفجارات السوق، ما أدى الى مقتل العديد من الأشخاص.
قال محمد علي، وهو تاجر فقد شقيقيه في أقسى فترات الصراع: "سيكون هذا هدفا سهلا للسيارات المفخخة، سيموت الناس هنا".
بعد حوالي تسع سنوات، و4500 قتيل من الجنود الأميركيين، وتريليون دولار، توشك حرب أميركا في العراق على الانتهاء. وقد وضع المسؤولون حدا رسميا لهذه الحرب يوم الخميس باحتفال متواضع في المطار قبل أيام من مغادرة آخر القوات عبر الطريق السريع الجنوبي إلى الكويت، عائدين من الطريق التي جاؤوا منها، لإنهاء أكثر الحملات العسكرية الأميركية طموحا وأشدها دموية منذ فيتنام.
بالنسبة الى الولايات المتحدة، فإن الحرب تترك إرثا من عدم اليقين بينما يضع الأميركيون في كفتي الميزان ما حققوه مقابل الثمن المدفوع، مع ذلك العدد الكبير من القتلى والجرحى. الديكتاتور العراقي، صدام حسين، هزم لكن الفشل في العثور على أسلحة محظورة قوض الدافع الرئيسي، تاركا طعما مريرا بينما ارتفع عدد القتلى. وقد أدى الصراع الطويل ونشر المزيد من القوات بشكل متكرر إلى التأثير سلبا على البلاد ومواردها، وقاد الى طرح تساؤلات حول نية أميركا في شن حروب على هذا النطاق الواسع مستقبلا.
سيترك العراقيون في دولة ليست بالتحديد في حالة حرب، ولا في حالة سلم، شهدت حالة من التحسن بطرق عديدة منذ "زيادة" القوات عام 2007، لكنها ما تزال دولة ممزقة يشوبها العنف والشلل السياسي، أرض تحددها الخطوط الطائفية، مستقبلها، للأسوأ أو للأفضل، أصبح الآن في يد شعبها.
وكتب الصحافي العراقي عماد الرسن اخيراً في صحيفة "الصباح الجديد" التي تمولها الحكومة: "إنها النهاية للأميركيين فقط، لا أحد يعلم ما إذا كانت الحرب ستنتهي بالنسبة الى العراقيين أيضا".
ستكون العراق الآن وحدها لتجد مكانا في إقليم قلبته الثورات، ولإدارة تنافسها مع إيران، التي ستتطلع إلى توسيع نفوذها ثقافيا واقتصاديا مع الفراغ السلطوي الذي يتركه الجيش الأميركي. وبينما يشعر المسؤولون الأميركون بالقلق من الروابط السياسية القوية بين قيادة العراق الشيعية وإيران، فإن الصورة على مستوى القواعد الشعبية أكثر دقة. اذ يشكو العراقيون من البضائع الاستهلاكية الإيرانية السيئة – يذكرون دائما منتجات الألبان ذات الجودة المنخفضة- والدور الخطير الذي تلعبه الميليشيات المدعومة إيرانيا، التي قتلت هذا العام العديد من الجنود الأميركيين.
فشل المصالحة
وتظهر المنافسة الإيرانية دائما في مدينة النجف المقدسة لدى الشيعة، حيث تتمركز السلطات الدينية العراقية. ووضعت إيران، مثل الغالبية الشيعية في العراق، واحدا من أبرز رجال الدين في النجف، ما زاد من القلق من أن إيران تحاول نشر نسختها من حكم رجال الدين إلى العراق. وفي هذه الأثناء، قال مقتدى الصدر، وهو رجل دين معاد للولايات المتحدة يتمتع بعلاقات قوية مع إيران، إنه مع الانسحاب العسكري، فإن الدبلوماسيين الأميركيين هم الآن لقمة سائغة لرجال الميليشيا التابعة له.
ويواجه العراق العديد من المشاكل الشائكة التي حاول الأميركيون وفشلوا في حلها، ومنها كيفية تقسيم الثروة النفطية والمصالحة الطائفية، وصولاً إلى تأسيس نظام قضائي عادل ونزيه. ويشتد في الشمال صراع بشأن كيفية تقاسم السلطة في كركوك بين العرب والأكرد والتركمان، وهي من المؤشرات الى الصراعات الخطيرة على السلطة في عراق ما بعد أميركا. وقد اعتبرت صفقة بين "اكسون موبيل" وحكومة كردستان في الشمال غير قانونية من جانب بغداد في غياب إجراءات تقاسم الموارد النفطية العراقية.
وقال عادل عبد المهدي، وهو سياسي شيعي بارز ونائب الرئيس السابق في العراق، واصفا وضع المصالحة بين الفصائل الثلاث الرئيسية في البلاد (السنة والشيعة والأكراد): "نحن عالقون والوضع في حالة من الشلل، الأمور من سيء إلى أسوأ".
ويرفض عدد مفاجئ من العراقيين تصديق أن الأميركيين راحلون حقا، بتأثير من عقلية المؤامرة التي تطورت عبر سنين من العيش في ظل ديكتاتورية صدام حسين، وبنظرة تاريخية شكلتها غزوات الصليبيين والاستعمار وغيرها من المظالم التي تعرضوا لها على يد الغرب.
راني باسل، الذي يقود سيارة أجرة في العاصمة، قال: "سيكون العراق في وضع جيد إذا انسحبت الولايات المتحدة"، لكنه لا يصدق أن ذلك سيحدث، حيث يضيف: "لا أعتقد أن الولايات المتحدة ستترك العراق، لأنها على وشك مهاجمة إيران".
في الفلوجة، حيث أدت سنوات من حرب المدن بين المنازل إلى ترك مدينة أطلق عليها السكان السنة "هيروشيما العراق"، احتفل المواطنون بالانسحاب بيوم من المظاهرات الشعبية، والخطابات الغاضبة، وإحراق الأعلام الأميركية، ومعرض لصور الأطفال المشوهين، والمنازل المدمرة، وغيرها من المشاهد التي وصفوها بالإرث المرير للغزو الأميركي.
وقال محمد عدنان، 35 عاما: "إنها سعادة كبرى أن يخرج الأميركيون، نأمل بأن نكون جميعا بخير، نحن العراقيين. كنا على ما يرام قبل عام 2003".
لم يكن الجميع بخير قبل عام 2003. فبعد فشل الثورة الشيعية في أواخر حرب الخليج عام 1991، أعدم صدام حسين عشرات الآلاف من الناس، معظمهم من الأكراد والشيعة. وقد أدت العقوبات الدولية إلى تدمير الاقتصاد، وانتشر الفقر المدقع والجريمة. وأوقعت الديكتاتورية جروحا عميقة في الوعي الجماعي، ما يفسر لماذا أدى الغزو الأميركي إلى إطلاق العنان للعديد من العواقب غير المتوقعة، من العنف الطائفي إلى ثقافة سياسية تقول بأن الفائز يربح كل شيء.
وقالت جانا هايباسكوفا، سفيرة الاتحاد الاوروبي في العراق: "إذا ذهبت إلى البصرة وانتقلت من بين إلى بيت، فإن النساء سيقلن إن أزواجهن اختفوا. مستوى الدمار في المجتمع كان أعمق مليون مرة مما توقع أي شخص".
ويقدر خبراء بأن بقايا ربع مليون إلى مليون عراقي مدفونة في قبور جماعية في أنحاء البلاد، هم ضحايا حكومة صدام. ولم يتم التعرف على أي ضحية باختبارات تحليل الحمض النووي، ويعود ذلك جزئيا إلى أن الوزارات المتعددة، والشيعة والأكراد لم يتفقوا على كيفية متابعة الموضوع. وقد أدى غياب العملية المؤلمة والعلاجية في نفس الوقت بتصفية الحساب مع التاريخ – كما فعلت جنوب افريقيا وغيرها من الدول – إلى إعاقة قدرة المجتمع العراقي على قهر أشباح ماضية.
ومع أكثر من مئة ألف مدني عراقي قتلوا في الحرب وما بعدها، انخفض مستويات العنف بدرجة كبيرة من عام 2007، حين كانت تقع نحو 7500 هجمة شهريا.
لكن العراق يبقى مكانا خطرا للغاية. ووفقا للجيش الأميركي، كانت هناك 500 إلى 750 هجمة شهريا هذا العام، بما فيها التفجيرات، والهجمات الصاروخية، والاغتيالات. وما زالت هناك نحو عشر جماعات مسلحة وميليشيات ناشطة في العراق: مجموعات سنية مؤلفة من الأعضاء السابقين في حزب البعث، والجماعة التي نشأت في البلاد "القاعدة في بلاد الرافدين"، والميليشات الشيعية التي تدعمها إيران ومقتدى الصدر.
التقدم البطيء
في الوقت الذي تدنى فيه مستوى العنف، فان النزاع الطائفي لا يزال بحاجة الى علاج. ويشعر مسؤولون اميركيون بالقلق من ان يؤدي هجوم واسع النطاق على احد الاضرحة الدينية الشيعية الى اشعال دورة جديدة من سفك الدماء الطائفية. ومن غير الواضح بعد ما اذا كانت قوات الامن العراقية تشعر بالولاء للدولة ام لطائفتها. ففي ابوغريب، الموقع السني الحصين خارج بغداد، يتذمر السكان من مضايقات قوات الامن الشيعية لهم، ويقولون انهم يخشونهم اكثر من المتمردين. وترفع الشرطة المحلية ومراكز الجيش اعلام الامام الحسين، الشهيد الذي يبجله الشيعة.
وقال جوست هيلترمان، من هيئة الازمات الدولية، عن الانقسام الطائفي "لقد اسدل عليه ستار النسيان. ولكن المصالحة لم تتحقق باي شكل من الاشكال".
فتحت الحرب الباب امام المستثمرين الاجانب للوصول الى احتياطيات النفط الهائلة لاول مرة من العام 1974، وان ظلت نسبة الشركات الاميركية فيها ضعيفة في مزادات ما بعد الحرب. اذ ان وزارة النفط العراقية منحت حتى الان 12 ترخيصا لاستكشاف حقول النفط في الجنوب لشركات من بريطانيا والصين وكوريا الجنوبية وهولندا وروسيا ودول اخرى، ولم تحصل على ترخيص إلا شركة اميركية واحدة هي "اكسون موبيل". وكانت النتيجة سببا في دحض الانتقادات القائلة ان الولايات المتحدة غزت العراق للحصول على نفطه.
غير ان انتاج النفط في العراق لم يصل حتى الان الى المستوى الذي كان عليه في اواخر سبعينات القرن العشرين، حسب قول وكالة الطاقة الدولية. وأعلنت الحكومة العراقية ان هدفها هو انتاج 12 مليون برميل في اليوم بحلول العام 2017 فيما يبلغ الانتاج الحالي 2.95 مليون برميل في اليوم، وهو هدف يعتبره بعض المحللين بأنه بعيد التحقيق.
ومن حيث المنظر الجمالي للمدينة، فان بغداد لا تزال منطقة حرب مليئة بنقاط التفتيش وبجدران مهدمة وباسلاك شائكة، اذ لا تزال المباني نصف مهدمة منذ أول موجة قصف وصفها (الرئيس الاميركي السابق) جورج دبليو بوش بانها "الصدمة والرعب". وتخضع السيارات للتفتيش عن متفجرات عند مداخل المركز الحكومي في المنطقة الخضراء وعن ضحايا مخطوفين خارجها. ولا يصل التيار الكهربائي الى معظم العراقيين الا لساعات قليلة في اليوم، ما يضطر الكثيرين الى النوم على اسطح منازلهم خلال ليالي الصيف الحارة.
غير ان العراق تحسنت احواله في بعض المناحي. فالحياة في بغداد ازدهرت في السنوات الاخيرة – اذ عادت الحياة الى الشوارع وانتعشت الاسواق، وسيُفتتح منتزه جديد للترفيه، ثم ان فرقة ملاهي اقامت عروضها في المدينة هذا العام. ورغم ان حكومة رئيس الوزراء نوري كمال المالكي لا تزال تشعر بوخز النزاع الطائفي، فانها جاءت نتيجة انتخابات العام الماضي التي اعلن مراقبون دوليون انها كانت نزيهة.
الاكتئاب والامل
تقوم مجموعة من الشبان الذين عاشوا خارج البلاد في الايام السوداء بالتجمع ايام الجمعة على ضفاف نهر دجلة التي تتناثر فيها القمامة لممارسة التزلج على الماء حيث يبدأ نشاطهم من الظهيرة حتى غروب الشمس. ويتناولون جعة "توبورغ" وويسكي "شيفاز" ويسمعون موسيقى البوب والراب الاميركية.
وقال خالدي النعيمي، الذي يملك شركة استيراد وتصدير ومنتجها الرئيس السيارات المصفحة "عندما انطلق بالدراجة المائية النفاثة (جيت سكي) فوق مياه دجلة، انسى كل الانفجارات والسياسات وكل شيء اخر".
غير ان شعورا محسوسا من الكآبة يعم العراق. فالحرب كشفت عن انقسام اجيال، يفرق بين كبار السن العراقيين الذين يتذكرون العصر الذهبي القصير في الستينات والسبعينات من ناحية، وبين الشبان الذين يميلون اكثر منهم الى الثقافة والافكار التي حاول الاميركيون استيرادها الى هنا.
وقال قاسم جاسم الذي يخبز الخبز في مخبز ابو نصير في الاحمدية، وهي حي سني في العاصمة، منذ 38 سنة "كانت الحياة جيدة في الستينات". وقال انه خلال الحرب "عندما كنت اخرج واشاهد جثث القتلى، أبكي من ذكرى ما كان المكان هنا في الماضي".
غير ان الحي الذي يقيم فيه لم يعد ارض معركة دموية تحت سيطرة "القاعدة". وقد غادره معظم الشيعة. لقد تغير نسيج المجتمع الى الابد. وقبل حوالي اربعة اشهر، عاد غيث رعد، الذي تملك عائلته دكان حلوى على الجانب الاخر من الطريق حيث المخبز، من سوريا التي فر اليها خلال القتال.
وقال "عندما رجعت لم أعثر على أي من اصدقائي. تغير المجتمع هنا، واختلف الناس عما كانوا عليه".
لقد فتحت الحرب ابواب العالم الخارجي امام العراقيين. فللمرة الاولى اصبح بامكان العراقيين مشاهدة محطات التلفزيون الفضائية واستخدام الانترنيت. وهذا سمح لمطربة البوب المعروفة باسم دالي، التي غادرت العراق في التسعينات وهي بعد صغيرة واصبحت شهيرة في العالم العربي، لتصبح نجمة في بلادها ذاتها. فقد عادت في الفترة الاخيرة للمرة الاولى منذ بداية الحرب لاداء اغانيها وتصوير فيديو موسيقي.
وعلى فنجان قهوة في قاعة فندق "شيراتون عشتار" الذي اجريت عليه تجديدات، اخذت تتأمل عودتها الى الوطن وقد ارتدت ملابس رياضية بنفسجية اللون من صنع "أديداس".
وقالت: "اشعر بمدى التغيير الذي طرأ على العراق، ومدى الحزن الذي يلفه. العراق كله حزين".