خشبة الخلاص الأخيرة

 

خيري الذهبي - تشرين

 

الآن وقد بلغت الروح التراقي, والسكين الحناجر, الآن لم يعد جائزاً الصمت, فالصمت صار جريمة أشبه بالتواطؤ.

الآن أشعر أن سورية, سورية التي نعرفها قد وصلت إلى نقطة الفصل, فإما الخراب للجميع, لجميع فئات الشعب, ولا أستثني أحداً, وإما أن نرتدّ قليلاً إلى العقل, الحكم ورجالاته, والشعب الحالم بحرية يستحقها, وعدالة دفعت سورية بكل فئاتها ما يكفي من الدم للحصول عليها.


أنظر إلى حمص, حمص الوديعة, حمص الطيبة, حمص التي لم تصطدم مع حاكم إلا فيما ندر, والحكاية الشهيرة عن السفاح تيمورلنك والذي دمر الشرق الإسلامي كله, إيران المعاصرة, وأفغانستان المعاصرة وبخارى وسمرقند وتركيا المعاصرة, بعد انتصاره على سلطانها الكبير بايزيد والذي كان يسمى بالصاعقة لشدته وانتصاراته في الحروب, ثم قدومه إلى الشام وتدميره معظم مدن الشام التي قارعها إلا حمص, فقد خادعوه باللفظ الديبلوماسي, أو التظاهر بالحمق, فأعتقها من الدمار إكراماً لسيدي خالد بن الوليد كما يقول مؤرخ المرحلة التيمورية ابن عرب شاه, فنجت.


حمص التي كنا نتمنى دائماً أن تكون كل سورية على تسامحها وتلطفها وتعايشها السلمي مع الجميع, مهما اختلفت دياناتهم ومذاهبهم, فلم تعرف حمص طوشة كطوشة العام 1860كما عرفتها لبنان أو دمشق, ولم تعرف مشاكل مذهبية أو طائفية, وكنا نقول إن ذلك راجع إلى طيب هوائها, وطيب مائها, وطيب غوطتها, فصارت صورة للسلم والمحبة.


حمص التي كانت الأندر بين مدن العالم حين صدّرت أيام روما عدداً من الأباطرة الحمصيين إلى روما, ولم تستطع مدينة أخرى فعل ذلك. حمص التي صنعّت وصدّرت النكات عنها في محاولة لجعل الناس يغضون الطرف عن حدة ذكاء أهلها, الذين عرفت سورية عدداً من رؤساء الجمهورية القادمين منها أكبر من أي مدينة سورية أخرى.

حمص هذه تدخل في الأتون القذر, الأتون الذي لا أتمناه لأي مجتمع على الإطلاق, فالهند حين دخلت إليه في أواخر أربعينيات القرن الماضي بعد استقلالها دفعت الملايين من أبنائها وأقول وأعيد الملايين من الأبرياء, الذين ماتوا لسبب أبسط كثيراً مما يجري في سورية, ولن أتدخل في التفاصيل السخيفة للحرب بين المسلمين والهندوس. وايرلندا التي عاشت قرناً من الدماء والقتل بين مذهبين مسيحيين يتعايشان ويتزاوج أبناؤهما بهدوء في أوروبا القارية وفي أميركا, ولكن السياسة البريطانية هيّجت الصراع فغرقت ايرلندا في حروب سخيفة قتل فيها الأخ أخاه وابن العم ابن عمه. ولم ينل الجميع من هذا إلا الحزن والأسى والندم فلم يحصلوا إلا على ما كان يمكن الحصول عليه لو احتكموا للعقل -ايرلنديين مع ايرلنديين دون تدخل السيد البريطاني. ولذا فأنا أرجو من أهلي أن يحتكموا للعقل- سوريين مع سوريين دون سماح للأجنبي بالتدخل في صناعة ديمقراطيتنا الأمل.


كنت أتوقع خائفاً لمدن أخرى في سورية أن تكون الشرارة للمأساة التي نرى الآن أول شرارتها, ولكن حمص لم تكن أبداً في خاطري وأعود للتكرار, أما وقد وقعت في حمص فأرجو من الجميع التنبه, فهذا يعني أن الجمر الكامن تحت الرماد خطير وحاد ومرعب وعلى الجميع الحذر, فليس من آمن على نفسه وولده وضميره مما سيحصل لو امتدت الشرارة الحمصية إلى مدينة أو مدن أخرى, وليس في هذا النوع من المآسي من منتصر, فالكل خاسر.


ولا شك أنّ بلاد الشام التي لم تعرف الثورات الحقيقية والجذرية من قبل, فعقليتها الوسطية المسالمة والتي راكمتها روح الدكنجي التاريخية و – مبدأ الخذ وطالب – حرمها من القيام بالثورات الجذرية الكبرى, وتمزقها الجغرافي حرمها دائماً من التوحد وراء فكرة واحدة مهما بلغ من نبلها. وليس التمزق الثقافي والمذهبي الناتج عن التمزق الجغرافي إلا لعجزها الأصيل عن الاتفاق حول فكر واحد.

 
أما وقد حدث ما حدث فلا بد أن أمراً جللاً يتم, ولا شك أن حمص الوديعة وقد وصل بها الأمر إلى ما نرى, فلا بد أنّ أمراً كبيراً يحصل, وعلى الجميع التوقف للحظة وسؤال ضميرهم: وماذا بعد..؟ سورية في خطر, وعلى الجميع التنبه, سورية في خطر شديد ولذا فأنا أرجو وأتمنى وأطلب من الجميع التوقف للحظة والبدء في إعداد مؤتمر حقيقي للحوار الوطني يدعى إليه من لا نعرفهم ممن يقودون الشارع مع تقديم كل الضمانات القانونية لهم. كما يدعى إلى هذا الحوار رجال الدولة الحقيقيون, فالحوار لا يتم إلا بين الخصوم الحقيقيين, فإن تمّ هذا الحوار وأتمنى أن يتم, فهو الأمل الوحيد قبل الخطوة القادمة إلى المجهول, والتي لا أظن أحداً يتمنى أن يخطوها, فالخراب هو الخطوة التالية.

 

خيري الذهبي - تشرين