قلب لا يغفو

  

  

 

 

حسن م يوسف - الوطن

  

 

أحياناً نمر ببعض الأفكار فتعجبنا صياغتها، ثم ننساها في زحمة المشاغل، وبعد عقود تتوهج في قلوبنا كجمرة هاجعة تعريها الريح من قمصان الرماد!

قبل أكثر من ثلاثين عاماً قرأت بضعة أبيات من الشعر لأدونيس، وخلال كل تلك المدة لم تخطر تلك الأبيات ببالي أبداً، لكن ما أن أيقنت برحيل الصديق المسرحي الكبير سعد اللـه ونوس عام 1997 حتى قفزت تلك الأبيات من أعماق ذاكرتي وضبطتني متلبساً بحقيقتي، كما لو أن الشاعر قد قرأ لحظتي قبل قدومها بعقود وحفظ صورتها المبدعة في خزانة زمنه المفتوحة على المستقبل.
قال أدونيس، يقول، وسيقول لأجيال عديدة: «أيها الميِّت فوق الخشبه:/ ياصديقي/ رَسَمَتْ وجهَكَ أزهارُ الطريقِ / ومَشَتْ خلف خطاك العتبة!»


ذات يوم صيفي من مطلع الثمانينيات، أوفدتني صحيفتي لحضور مهرجان «فيلموستاف» في مدينة كلكوتا التي تلقب بـ«الجحيم على الأرض» وقبيل ظهيرة أحد الأيام نظمت لنا إدارة المهرجان جولة في نهر (الغانج) المقدس. وما إن انطلق بنا المركب حتى اقترب مني مخرج أفلام وثائقية من كيريلا وتابع استفساراته حول الصراع العربي الصهيوني.
قال لي الرجل متابعاً حوارنا الذي بدأ منذ أن تعارفنا قبل أيام: «أنا، كمواطن هندي، نشأت على كراهية الاحتلال بكل أنواعه، كما أعتبر نفسي صديقاً للعرب، إلا أنني لا أفهم كيف يمكن لكيان من أربعة ملايين أن يتفوق على مجتمع عربي من مئتي مليون!» يومها قلت له: إن أعداء العرب قد اخترقوهم، وخاصة في الدوائر الحاكمة، حيث إن بعض ملوك العرب وحكامهم باتوا أكثر عداء للقضايا العربية من الصهاينة أنفسهم. لحظتها أطبق الرجل عليَّ كفخ محكم، قال: «كيف؟ أوضح».

أنقذني صوت الدليل القريب وهو يعلن بصوت عال أننا سنمر بعد قليل تحت الجسر العملاق الواصل بين ضفتي الغانج الذي يتراوح عدد البشر الراكبين والراجلين فوقه، في لحظات الذروة، بين مليون ومليوني إنسان.

استفدت من لحظة الصمت التي تلت كلام الدليل وسألت المخرج عن والديه، في محاولة مني لتشتيت الحديث الذي طال وبات محرجاً، فتهدل وجه الرجل فجأة. قال لي بتأثر بالغ: «أنا لم أعرف نعمة الأم التي يصفونها بأنها جنة الأرض، لأن أمي ماتت بعد أن أنجبتني بيوم واحد، أما أبي فقد توفي قبل أسبوعين».

غرق الرجل في صمت محتشد بالعواطف، فأعربت له عن أسفي لرحيل والده. عندها أسدل الرجل جفنيه كما لو أنه يحبس دموعه خلفهما ثم أشاح بوجهه بعيداً وقال: « هناك مثل منتشر في كيريلا وكثير من أقاليم الهند يقول: (نعرف قيمة الملح عندما نفقده، وقيمة الأب عندما يموت)».

فجر الأربعاء الماضي انتقل أبي إلى رحمة ربه، وفي لحظة الحقيقة تلك، قفز ذلك المثل الهندي من أعماق ذاكرتي وضبطني متلبساً بحقيقتي.

أعترف أن قلبي مثقل بحزن كثيف لم أعرف له مثيلاً إلا عندما فقدت أمي في تموز ما قبل الماضي، غير أني أود أن أعرب عن امتناني للحياة لأنها كشفت لي قيمة أبي قبل أن يموت، ولعل رضاه عني هو الشيء الوحيد الذي يخفف قليلاً من إحساسي بجمرة الفقدان التي تنشُّ في القلب.

قد يكون من غير المناسب أن أكتب لكم عن وفاة أبي المكافح الذي صنع من الضعف قوة ومن القسوة رقة، في الوقت الذي تنزف فيه سورية العديد من خيرة أبنائها كل يوم، لكنني مملوء بغيابه لدرجة أنني لا أستطيع الكتابة عن موضوع آخر، كما لا أرى تناقضاً في ذلك، فقد عاش أبي عمراً مديداً من الكفاح في سبيل أسرته الصغيرة، دون أن يكون ذلك على حساب خير أسرته السورية الكبيرة، ولو فعل كل واحد منا ذلك لكنا الآن نحل مشاكل دول العالم بدلاً من أن تتطفل دول العالم على مشاكلنا وتستهدفنا من خلال ضعف انتمائنا. فقد صدق ريشيليو إذ قال: «لا يغفو قلب الأب، إلا بعد أن تغفو جميع القلوب». وقد تسلل أعداؤنا إلينا عندما غفت قلوبنا.