قنابل موقوتة

نهلة السوسو. تشرين
حين حط بي الترحال في شقة متواضعة، في التضامن مسبق الصنع، بعد تشرد مضن، استمر سنوات بين منازل ضيقة، في الأقبية وفوق السطوح، وفي شقق صغيرة حجز فيها المالك غرفة ليست بعيدة عن مسمار جحا الذي يضمن تطفيش المستأجر، حين يتوافر آخر يدفع أكثر، شعرت أنني في وطن جديد يرتب علي مسؤوليات تتعلق بنظافة الحي وإنارته وجمالياته، فذهبت وجاري عبد الهادي الشماع رسام الكاريكاتير الشهير إلى مكتب المحافظ ليتضامن معنا، في زراعة مربع ترابي فارغ تحول بعد سنوات إلى حديقة خضراء وارفة الظلال لا يخالط خضرتها لون آخر، لأنها أصغر من أن تنبت وردة حتى من صنف الدفلى غير المحبوب..
ومرت سنون وأحد الجيران الميسورين يخوض حرباً مع رؤساء البلدية (المتغيرين)، ميدانها منزل يملكه بطابقين ونشط في إقامة طابق ثالث فرابع، وانضم إلى المعركة كثير من الجيران المتضررين من حجب الضوء والسماء وكشف الخصوصيات، والذين كانوا يتنفسون الصعداء كلما حلّ عمال البلدية للهدم، ثم ينكفئون يأساً حين يتحول الردم إلى طوابق جديدة تطمرهم بالغبار والرمل، وتباعد بينهم وبين الجار الذي لم يتورع عن استخدام كل مسلك مشين، كي ترتفع طوابقه ويستمر في تجارته البائسة على طريقة: جيبي مليئة وبعدي الطوفان، فكان يرشو عمال البلدية وموظفيها، وبعض من يتيسر من الجيران, ويهدد ويوظف الزعران، ويحوك قصصاً مرعبة لكل من تسول له نفسه الاعتراض على مخالفاته، أو يذكره بالمرسوم الرئاسي الذي يمنع البناء المخالف..
وعلى طريقة المعارك بين الأعداء التي يستخدم فيها التعبير التقليدي: الكر والفر.. كمن الرجل المتعلم في أرقى الكليات الجامعية، إلى أن عصفت الأزمة في البلاد، فتعامل معها كأنها صنعت لأجله وحده، فارتفعت مخالفته، تحت جنح الظلام وبسرعة قياسية لتصبح خمسة طوابق..
ولم يمض أسبوع بعده حتى نشط الجميع في استقدام الشاحنات الصغيرة وعشرات العمال «الذين وحدهم من تعاطفت معهم من القلب» وخلال أيام ارتفعت في الحي ناطحات سحاب، وأُقيمت محال تجارية للبقالة وبيع الخضر والعصير والهواتف الجوالة، وتغير وجه الحي خلال شهر أكثر مما فعل خلال اثنين وعشرين عاماً، والأنكى من كل هذا، التمادي في تشويه الأرض والعقارات، الردم الذي تراكم في كل زقاق وعلى كل ناصية وزاوية، وبات مخلوطاً بأكوام القمامة، حيث يتعذر على عمال التنظيفات أن يعملوا في إزالة حطام الأبنية التي غيرت مواصفاتها، فبتنا في كابوس القمامة، وكابوس التشويه المرّ الذي لا راد له.. وإذ لا نستغني عن التنقل في عاصمتنا الغالية، اكتشفت بذهول أن المخالفات لم تقتصر على الحي المتواضع، بل عمت بسرعة رياح الأعاصير، أرقى أحيائها، فبلغت بساتين الرازي وتمددت إلى ضاحية قدسيا، الآسرة بحدائقها وفراغاتها ومنحدراتها.. وتباعدت إلى الضواحي والأرياف، وقدمت أنموذجاً غير مضيء للحرية التي يطالب بها بعضهم!
مقولة: إن الفقراء فرضوا حاجتهم للسكن تدحضها حكاية الجار المتعلم صاحب الصيدلية والطوابق الخمسة المخالفة (هل يحتاج إلى خمسة طوابق ليسكن فيها مع ولدين) كما تدحضها سيدة فقيرة حاربت جارها بشراسة حين أراد دخول السباق، وصرخت في وجهه: ليس الآن ولا على دم الشهداء الذي يسيل! والكارثة ليست في القمامة الطارئة على شوارعنا ولافي تشويه المدينة الأجمل في العالم، بل في القنابل الموقوتة غير المطابقة للمواصفات، والتي ستنهار قريباً على رؤوس سكانها، وعندها ستتبارى الفضائيات التي أحبت الشعب السوري فجأة وأضناها حبه حتى الدنف لنقل الصور، وسيبدأ الصراخ ضد الحكومة والنظام، لا ضد الانهيار الأخلاقي لتجار الدم والبشر، الذين لا يقلون إجراماً عن أعداء الخارج، وقتلة الداخل، وقد التمس مؤشراتهم مسلسل «بعد السقوط» الذي كتبه السيناريست غسان زكريا وأخرجه سامر برقاوي منذ عام.. فإلى كم إنذار نحتاج وبأي وسيلة نوقظ ضمائر مثل هؤلاء؟ وهل فات حقاً وقت الحساب؟ وكيف السبيل إلى معالجة الأخلاق، قبل معالجة المخططات الهندسية، التي لم تقصر الحكومات في كشف جماليات تنفيذها، جسوراً وساحات، وعقد مرور نشهد لها، ويفعل ذلك ضيوفنا وزوارنا، بأنها من صميم مدينة لها نكهة لاتنسى.