كيف مروا؟

بعد ستمئة عام من مجازر (تيمورلنك), كتب علينا أن نشاهد بعض فصولها الدامية بالصوت والصورة

 

نهلة السوسو. تشرين

 

(... وسيقت إليه نساء حلب سبايا, وأحضرت إليه الأموال ففرقها على أمرائه, واستمر بحلب شهراً, والنهب في القرى لا يبطل, مع قطع الأشجار وهدم  وعمل من الرؤوس منائر عدة, مرتفعة في السماء نحو عشرة أذرع في دور عشرين ذراعاً, حُزر ما فيها من رؤوس بني آدم, فكان زيادة على عشرين ألف رأس, وجعلت الوجوه بارزة يراها من يمر بها, ثم رحل عنها وهي خاوية على عروشها خالية من ساكنها وأنيسها وقد تعطلت من الآذان وإقامة الصلوات وأصبحت مظلمة بالحريق, موحشة, قفراء, مغبرة لا يأويها إلا الرُّخْم).


-وبعد حلب التي أقام فيها شهراً وتركها كما أسلف وأجمع مؤرخو تلك الحقبة من تاريخ بلاد الشام, ذهب إلى دمشق التي أقام فيها ثمانين يوماً, (وحين غادرها كانت قد احترقت كلها, وسقطت سقوف جامع بني أمية من الحريق وزالت أبوابه وتفطر رخامه ولم يبق غير جدره قائمة وذهبت مساجد دمشق ومدارسها ومشاهدها وسائر دورها وقياسرها وأسواقها وحماماتها وصارت أطلالاً بالية ورسوماً خالية, قد أقفرت من الساكن وامتلأت أرضها بجثث القتلى ولم يبق فيها دابة تدب, إلا أطفال يتجاوز عددهم الآلاف, فيهم من مات وفيهم من يجود بنفسه!
وفي تفصيلة من رواية التاريخ تأتي هذه المعلومة: وقيل لما أراد( تيمور لنك) الرحيل عن دمشق جمعوا له أطفال المدينة الذين أسر أهلهم وقتلوا, بين رضيع وأبناء خمس سنين, فما دونها, فجمعوا خارج المدينة فركب (تيمور لنك) وأتى إليهم, فوقف ساعة طويلة وهو ينظر إليهم, ثم قال لعسكره: سوقوا عليهم الخيل فساقوا عليهم فماتوا أجمعين وكانوا نحو عشرة آلاف طفل, فلما رجع إلى الوطاق, لامَه أمراؤه على ذلك فقال: انتظرت أن الله ينزل على قلبي فيهم رحمة فما نزل على قلبي فيهم رحمة!
 

 

هذا منطق لقاتل يجهز على المدائن ويخلفها وراءه تلتهمها النيران لمدة تسعة شهور متواصلة, لا يتنفس فيها إلا الرخم ولا يزحف على أرضها إلا الجراد, ويحمل الله جلّ جلاله مسؤولية قتل عشرة آلاف طفل لأنه لم ينزل الرحمة على قلبه, هو ذاته مدعي الإسلام (ويالهذا الدين كم استخدمه ذريعة المختلون أخلاقياً) وباسمه يخاطب علماء مدينة دمشق قبل استباحتها, أريدكم أن تعرفوا أنني قدمت من بلدي إلى هذه الأقاليم وقد تكلفت نفقات وأموالاً كثيرة, فقط لأزيل عنكم (وأنتم الطيبون, أتباع محمد صلى الله عليه وسلم المخلصون) الوباء المميت الذي طالما عانى منه هذا البلد الشريف وإنني إن شاء الله أجاهد في سبيل تحريركم من النير اللعين للمسيحيين ومن جور السلطان وأعوانه...
وبعد ستمئة عام من مجازر (تيمورلنك), كتب علينا أن نشاهد بعض فصولها الدامية بالصوت والصورة هذه المرة,فرأينا تلك العائلة التي مزقها الرصاص قرب مدفأة خامدة, ولاندري ماذا كانت الأم تروي لأطفالها قبل أن يخيم عليهم الموت لأن الإعلام الدموي اهتم بالقاتل أكثر من القتيل, وجاس معه في أطلال الخراب وأطلق, للعجب, صرخات تنادي للحرية كما نادى (تيمور) بخلاص أمة لايفهم لغتها ولا يتكلمها, ولم يتوسله أحد منها كي يخلصه, من جور المسيحيين المزعوم والسلطان الذي جاء إليها من القاهرة للدفاع عن أسوارها لكنه انكسر بسبب مكر ذلك المجرم الذي لاحدود له, والمتابع المنتبه, خاصة لتلك الجملة التي تكررت على جدران بعض أحياء حمص: كتائب... مرت من هنا, يلحظ فوق تلويث اسم الخليفة الأعظم عدلاً وانتحاله من أجل القتل الأعمى, أن الخط بطريقة رسم حروفه هو المستخدم في بلدان المغرب العربي, قبل أن يوقن أن الجريمة لها وطنها الخاص, وتنتج من نفسها طبعات منقحة وفريدة, فجريمة عصر الحرية المختلة, في هذا الزمان, أعادت جرائم العصور المظلمة وأضافت إليها ملامح الأفلام الأمريكية بالكتابة على الجدران, فالاستعراض على الطريقة الأمريكية جزء من ثقافة التباهي والشهرة, وتطويع الحياة برمتها من أجل تلفزيون الواقع!
اندثر (تيمور لنك) وتمزقت امبراطورية الجماجم التي أقامها, بعد موته مباشرة, وازدهرت حلب ودمشق وأعادت عمرانها الجميل وتراتيل كنائسها وتواشيح مساجدها, فهل يعقل هؤلاء القتلة ويتفكرون, ويتساءلون لماذا مروا؟ ومِنْ أجل مَنْ؟ وكيف سينظرون إلى الأحياء التي عاشوا فيها ثم هدموها بأيديهم وأموال وأسلحة غيرهم؟
أتمنى أن أتابع لحظة الحقيقة تلك لَعلّي أفهم هؤلاء كما ساعدنا المؤرخون في فهم الغزاة الدمويين, الذين مروا من هنا..