THE INDEPENDENT- فيسك وذكرى سبتمبر

ترجمة سهير الذهبي
هل دفعت بنا احداث سبتمبر جميعاً الى الجنون؟ كم هو مناسب، ان يتبين ان النموذج الأمثل الذي خرجت به عاصفة النار تلك التي هبت قبل تسع سنوات هو قس معتوه يهدد بعاصفة نيران اخرى يحرق فيها القرآن بكل نازية.. او مسجد يـُعتزم بناؤه بالقرب من "غراوند زيرو" موقع برجي مركز التجارة العالمي.. كما لو ان احداث سبتمبر كانت هجوماً على المسيحيين وليس على الغرب.
ولكن لماذا علينا ان نشعر بالمفاجأة؟.. فقط انظروا الى المهووسين الآخرين الذين ولدوا في اعقاب تلك الجرائم الدولية ضد الانسانية: القذافي بعد تخلصه من برنامجه النووي.. بلير بعينه اليمنى المجنونة.. جورج بوش بسجونه السوداء وحربه المعتوهة ضد "الارهاب".. وذلك الر جل الشقي الذي عاش – او ما زال يعيش – في كهف افغاني, ومئات الاعضاء الذين اوجدهم في تنظيم القاعدة.. والملا بعينه الواحدة.... دون ان نذكر جميع عناصر الشرطة المعتوهين ووكالات الاستخبارات و"فتوات" السي آي إيه الذين خذلونا بشكل كامل في الحادي عشر من ايلول, لأنهم كانوا اكسل او اغبى من ان يعرفوا هويات الرجال التسعة عشر الذين كانوا سيهاجمون الولايات المتحدة؟ وتذكروا امراً واحداً: حتى لو تمسك القس تيري جونز بقراره التراجع عن حرق المصاحف, فإن معتوهاً آخر من معتوهينا سيحل مكانه.
في الحقيقة يبدو ان هذه الذكرى التاسعة الكئيبة لاحداث سبتمبر – وليعفنا الله من الذكرى العاشرة العام المقبل – لم تنتنج سلاما او عدالة او ديمقراطية او تعزيزا لحقوق الانسان, بل انتجت وحوشاً – غربيين ومحليين – انتشروا في العراق وازهقوا ارواح مئة الف شخص .. او خمسمئة الف .. او مليون.. ومن يهتم؟.... وقتلوا عشرات الآلاف في افغانستان. ومن يهتم؟....
ومع انتشار هذا المرض في الشرق الاوسط ومن ثم عبر العالم, فإنهم – واقصد الطيارين الحربيين , والمتمردين , والمارينز , والانتحاريين , والقاعديين من المغرب والخليج , والخلافة في العراق , والقوات الخاصة – كل هؤلاء شاركوا في نحر وذبح النساء والاطفال والشيوخ والمرضى والاصحاء, من الهند وحتى البحر المتوسط ومن بالي وحتى انفاق المترو في لندن... واليوم يبدو ان الابرياء الالفين والتسعمئة ولستة والستين الذي قتلوا قبل تسع سنوات تتم باسمهم محرقة من النار والدم يذكيها قس معتوه من مدينة غينسفيل.
بالطبع هذه هي الخسارة.. ولكن من هو الذي حقق ارباحا؟.. انهم بالتاكيد تجار الاسلحة, وشركة "بوينغ , وشركة "لوكهيد مارتن" , وفتيان الصواريخ وصانعو الطائرات من دون طيار وشركات انتاج قطع غيار طائرات الإف ستة عشر والمرتزقة ذوو القلوب المتحجرة الذين يتغطرسون في اراضي المسملين باسمنا بعد ان عثرنا على مئة الف عدو مقابل كل واحد من القتلة التسعة عشر الذين ارتكبوا احداث سبتمبر .
القائمون على التعذيب امضوا وقتاً ممتعاً , واشبعوا ساديتهم في سجون اميركا السوداء. -وكم كان مناسبا جدا ان يتم الكشف عن مركز التعذيب الاميركي في بولندا بالتزامن مع الذكرى التاسعة لهجمات سبتمبر – مثلما استمتع الرجال (والنساء ايضا اذ اخشى) االاساتذة في صنع الاغلال والقيود وتقنيات الاغراق وكل الوسائل التي نخوض بها حروبنا... ودعونا لاننسى كل مهووس ديني في العالم, سواء كان من نوع بن لادن، او من نوع ملتحيي طالبان، او من نوع الجلادين الانتحاريين, او حتى قسنا من غينسفيل.
وماذا عن الله؟ اين هو مكانه بالضبط بالنسبة لهؤلاء؟ فكل وحش من اولئك الذين ولدوا بعد الحادي عشر من سبتمبر هو في الحقيقة من المؤمنين الذين يصلون لله .. بن لادن يصلي لله ويتوسل اليه ان يمحي امريكا محيا.. كما اخبرني عام سبعة وتسعين. وبوش صلى لله وبلير صلى ويصلي لله .. وكل القتلة من المسلمين والغربيين والقس تيري جونز واتباعه الثلاثين او الخمسين يصلون لله... ولا بد ان الله استمع الى كل تلك الصلوات خلال حروبنا الجنونية.
قبل خمس سنوات وفي الذكرى الرابعة للهجمات, سألتني طالبة مدرسة خلال محاضرة في احدى كنائس بلفاست عن الفائدة التي سيجنيها الشرق الاوسط من مزيد من الدين لديه... فأجبتها وبصوت عال – وبقليل من التدين- لا .. ان الله مفيد في التأملات وليس الحروب.
ولكن - وهنا نجد أنفسنا مدفوعين باتجاه المنحدرات والصخور والتشعبات التي يتمنىى قادتنا لو اننا ننساها ولا ننتبه لها- كل هذه الفوضى العارمة والدموية واللعينة حاصلة في الشرق الاوسط .. انها حاصلة بشأن المسلمين الذين حافظوا على ايمانهم , في الوقت الذي فقد فيه الغربيون الذين يسيطرون عليهم عسكريا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا ايمانهم.
كيف يمكن لهذا ان يحصل؟ يتساءل المسلمون .. لا ريب ان قمة السخرية ان يكون القس جونز مؤمناً بينما بقيتنا ليسوا كذلك.. وبالتالي فإن كتبنا ومستنداتنا لا تشير ابدا الى صراع المسلمين ضد المسيحيين، بل الى صراع المسلمين ضد الغرب.
ومن الطبيعي جدا ان يكون الموضوع المحظور علينا الحديث عنه وهو علاقة اسرائيل باميركا والدعم الاميركي اللامتناهي لسرقة اسرائيل ارض العرب والمسلمين , هو ايضا في قلب هذه الازمة الرهيبة التي نعاني منها في حياتنا.
وكان عدد امس من الاندبندنت قد نشر صورة لمتظاهرين افغان ينادون بالموت لامريكا , وفي خلفية الصورة كان المتظاهرون يرفعون راية سوداء كتب عليها باللون الابيض وباللغة الدارية : "نظام الحكم الصهيوني مصاص الدماء والزعماء الغربيون الذين لا يأبهون لمعاناتنا وليس لديهم ضمير يعيدون الاحتفال بالسنة الجديدة بسفك دماء الفلسطينيين".
الرسالة كانت متطرفة وشريرة.. ولكنها تؤكد مرة اخرى ان الحرب التي نشارك فيها تتعلق كذلك باسرائيل وفلسطين, حيث يُفترض ان المسلمين يكرهوننا لما نحن عليه, او يكرهون "ديمقراطيتنا" .. (اقرؤوا كتاب: "بوش وبلير وحشود السياسيين الكذابين") .
هذا الصراع يصب في قلب "الحرب على الارهاب".. وهذا هو السبب الذي دعا بنيامين نتنياهو، وهو شرير بالقدر ذاته، ليقول في اعقاب هجمات سبتمبر: انها تصب في مصلحة اسرائيل, اذ ان اسرائيل ستتمكن الان من الادعاء انها تشارك ايضا في "الحرب على الارهاب"، وان عرفات – حسب ادعاء ارييل شارون الداخل في الغيبوبة الان – هو بن لادننا.. وهكذا فان الاسرائيليين كانت لديهم الوقاحة اللازمة للادعاء بان سديروت، التي تتعرض لصواريخ من القصدير من قبل حماس هي غراوند زيرو.
ولكن لا .. فمعركة اسرائيل مع الفلسطينيين هي صورة مشوهة عن "حربنا ضد الارهاب"، - التي يفترض فينا ان ندعم فيها اخر مشروع استعماري على الارض - ونتقبل ضحاياها الالاف ,فقط لأن تسعة عشر مجرماً هاجموا البرجين والبنتاغون ورحلة طائرة اليونايتد رقم ثلاثة وتسعين قبل تسع سنوات.
ومن المهازل المضحكة ان تكون احدى نتائج هجمات سبتمبر المباشرة سيلاً من رجال الشرطة الغربيين الذين سافروا الى اسرائيل لتطوير خبراتهم في مكافحة الارهاب بمساعدة ضباط اسرائيليين يمكن ان يكونوا – حسب الامم المتحدة – مجرمي حرب.
ولم يكن مفاجئا اذا ان نجد ان الابطال الذين اصطادوا باسلحتهم الشاب جان تشارلز دي منزيس في محطة أنفاق في لندن عام الفين وخمسة تلقوا النصيحة في "مكافحة الارهاب" من الاسرائيليين.
في الحقيقة انا اعرف تماما كل الحجج.. فنحن لا نستطيع ان نقارن افعال الارهابيين الشريرة بشجاعة الشبان والشابات الذين يدافعون عن حياتنا – مضحين بحياتهم – على الجبهة الامامية من "الحرب على الارهاب". اذ لا مجال للمساواة.. ف"هم" يقتلون اناسا ابريا ء لانهم "اشرار" .. و"نحن" نقتل ابرياء بطريق الخطأ !!. لكننا نعرف اننا سنقتل ابرياء, وان افعالنا ستخلق مآسي كبيرة لاشخاص فقراء وضعفاء ومشردين.
ولهذا فقد اخترعنا تعريفا شريرا يسمى "الاضرار الجانبية". فإذا كانت كلمة "جانبية" تعني ان هؤلاء الضحايا كانوا ابرياء، فان "جانبية" تعني ايضا اننا أبرياء حين نقتلهم. فقتلهم لم يكن في نيتنا، حتى وان كنا ندري اننا سنفعل ذلك لا محالة. ففي تعبير"جانبية" خلاصنا.
وهذه الكلمة وحدها هي التي تجعل الفرق "بينهم" و"بيننا"، بين حقنا السماوي في القتل وحق بن لادن السماوي في القتل .. اما الضحايا الذين يختفون باعتبارهم جثثا "جانبية" فلم يعد من المهم عدهم او ذكرهم، لاننا نحن الذين ذبحناهم. وقد لا يكون الامر مؤلما. ولعل القتل بالطائرات التي تطير من دون طيار يحمل في طياته مفارقة ارض بصورة اكثر هدوءا، وان سلب الحياة بصواريخ جو أرض من قاذفات "بوينغ لوكهيد 114 سي" أقل ألما من الموت بشظايا قنبلة مزروعة في الطريق او بعمل شخص انتحاري متحجر القلب ييلف نفسه بحزام ناسف.
ولهذا فاننا نعرف تماما عدد الذين قتلوا في الحادي عشر من أيلول عام 2001 , انهم الفان وتسعمئة وستة وستين .. - وان كان من المحتمل ان يكون العدد اكبر من ذلك - ولا نقوم بتعداد الاشخاص الذين نقتلهم نحن. لانهم يجب الا تكون لهم هوية ولا براءة ولا شخصية ولا قضية ولا مشاعر.. ولاننا قتلنا اعدادا من الناس أكبر بكثير من الذين قتلهم بن لادن وطالبان والقاعدة.
الذكريات السنوية هي احداث تعيش عليها وسائل الاعلام والصحف والتلفزيونات, الذين عندهم عادة غريبة تتمثل في ائتلافهم وتعاونهم معا لصنغ اطار مؤلم لهذه الذكريات .. ونحن نستعيد ذكرى بداية حرب دمرت معنوياتنا، وحولت سياسيينا الى مجرمي حرب وجنودنا الى قتلة واعداءنا المتهورين الى ابطال في قضية معاداة الغرب. وبينما يريد القس جونز في خضم هذه الذكرى الضبابية حرق المصحف، حاول توني بلير بيع كتاب اطلق عليه اسم "رحلة".
ويقول جونز ان القرآن "شرير"، والبريطانيون تساءلوا ما اذا ان كان يجب تصنيف كتاب بلير على انه "جريمة"....
وبالتاكيد فقد تحولت احداث سبتمبر الى فانتازيا , عندما جذب القس جونز اهتمام اوباما وكلينتون والامم المتحدة .... الذين ستدمرهم الالهة جميعا.
روبرت فيسك – THE INDEPENDENT