أبعاد الأزمة اللبنانية

لبنان ليس للبنانيين وحدهم، هو لهم أحياناً ولهم ولغيرهم أحياناً أخرى . الغير هو دول المنطقة، العربية وغير العربية، ودول العالم أيضاً .
الجميع، لبنانيين وغير لبنانيين، يتعاملون مع لبنان لا كوطن بل ساحة تتصارع فيها قوى الداخل والخارج على المصالح والمواقع والنفوذ . لبنان، إذاً، في أزمة متواصلة، لأن الصراعات فيه وعليه متواصلة .
الأبعاد البارزة في أزمة لبنان الراهنة محلية وعربية وإقليمية ودولية، وهي أبعاد متداخلة، يصعب فصل أحدها عن الآخر، لذلك تتعقد الأزمة ويطول أمدها وتتزايد ضحاياها وأضرارها .
محلياً، يشتد الصراع على السلطة، يخالطه صراع عربي وإقليمي ودولي على مصالح سياسية واقتصادية . طرفا الصراع المحلي الرئيسان هما قوى 8 آذار وحلفاؤها، وقوى 14 آذار وحلفاؤها .الطرف الأول يضم قوى الممانعة والمقاومة وتدعمه سوريا وإيران، وهو يتولى السلطة من خلال حكومة ائتلافية برئاسة نجيب ميقاتي، والطرف الثاني يضم القوى المناوئة للمقاومة ولسوريا وإيران، وتدعمه دول عربية كما دول الغرب الأطلسي .
عربياً، يشتد الصراع بين سوريا والدول العربية التي تدعم، بمقادير متفاوتة، المعارضة السورية، بجناحيها السياسي والمسلح، ضد نظام البعث . الصراع في سوريا يفيض إلى الدول المجاورة التي تنقسم بين مؤيد للنظام السوري ومؤيد لمعارضيه .
في لبنان، ثمة انقسام سياسي حاد حيال سوريا، نظاماً ومعارضة . فقوى 8 آذار وحلفاؤها تؤيد النظام السوري لكونه حليفها في مواجهة “إسرائيل”، بينما تؤيد قوى 14 آذار وحلفاؤها المعارضة السورية لكونها تتمتع، بدعم الدول العربية المعارضة لسوريا .
إزاء هذا الانقسام، اعتمد رئيس الحكومة نجيب ميقاتي سياسة “النأي بالنفس” عن الأزمة السورية ومضاعفاتها .
إقليمياً، تقف “إسرائيل” موقفاً معادياً من نظام الأسد لكونه حليفاً للمقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية كما لإيران . كذلك تقف تركيا موقفاً مناهضاً لنظام الأسد ومؤيداً للمعارضة السورية، وتحتضن “المجلس الوطني السوري” كما “الجيش السوري الحر” الناشطين ضد النظام . في المقابل، تقف إيران إلى جانب نظام الأسد وتدعمه سياسياً واقتصادياً ومالياً . ويحذو حذوها العراق أيضاً . مواقف هذه الدول جميعاً تنعكس تداعياتٍ سياسية واقتصادية وأمنية على الساحة اللبنانية .
دولياً، تنحاز دول الغرب الأطلسي، ولاسيما الولايات المتحدة، إلى المعارضة السورية بسبب معارضتها للتحالف القائم بين سوريا وقوى المقاومة اللبنانية والفلسطينية وإيران، كما بسبب معارضتها لبرنامج إيران النووي ومخاطر انعكاساته على المشهد الإقليمي . ولا تعارض واشنطن قيام القوى الداعمة للمعارضة السورية باستخدام المناطق اللبنانية الحدودية ممراً لتهريب السلاح والعتاد والرجال إلى سوريا . غير أن واشنطن تحرص على تحذير لبنان من مغبة التغاضي عن عناصر تنظيم “القاعدة” وغيره من التنظيمات التي تعدّها إرهابية، لذلك، تقوم بين الفينة والأخرى بتزويد الأجهزة الأمنية اللبنانية بمعلومات عن “عناصر إرهابية” تنشط داخل لبنان .
لعل مشهد العنف الأخير في الأزمة اللبنانية هو نتاج ازدواجية موقف واشنطن المناهض للنظام السوري من جهة، والداعم من جهة أخرى لأجهزة الأمن اللبنانية في حملتها على “العناصر الإرهابية” التي تبيّن أن أحدها، الملتبس الانتماء، ضالع في دعم المعارضة السورية المسلحة . فقد أدى توقيف هذا العنصر إلى اندلاع ردة فعل شعبية واسعة في صفوف القوى الإسلامية السلفية الداعمة للمعارضة السورية .
زاد الطين بلة مقتل شيخين سلفيين عند حاجز للجيش اللبناني في شمالي لبنان مازالت ملابساته غامضة . فقد نظّم الإسلاميون السلفيون في شمال لبنان كما في بيروت وصيدا والبقاع الأوسط تظاهرات الاحتجاج، وقطعوا الطرقات، وشلّوا المؤسسات العامة بإضراب استجابت له الأوساط المؤيدة لقوى 14 آذار، ولم يتوانوا خلاله عن طلب إقالة قائد الجيش وإعدام الضباط والجنود “المسؤولين” عن مقتل الشيخين، كما طالبوا بإخراج قوات الجيش من مدن وقرى شمالي لبنان .
بدا واضحاً أن الإسلاميين السلفيين سحبوا بساط التأييد الإسلامي من تحت أقدام “حزب المستقبل” الذي يتزعمه سعد رفيق الحريري، وباتوا أسياد الشارع في معاقل نفوذه في بيروت وطرابلس وعكار . وفي محاولة يائسة لانتزاع زمام المبادرة من السلفيين، دعا نواب بيروت، الحريريون إلى استقالة الحكومة وإحالة قضية مقتل الشيخين على المجلس العدلي، وإقالة قائد الجيش، كما نادى بذلك نواب عكار .
ميقاتي رد بسرعة وقوة على الحريريين متهماً إياهم بأنهم يتحدثون بلغتين ولسانين وأن همهم الوحيد استرداد الحكم وكأنه حق مكتسب لهم لا يحق لأحد انتزاعه منهم، رافضاً الاستقالة ومؤكداً استمراره في تحمل مسؤولياته الوطنية .
الواقع أن الموقف السلبي من الجيش ولّد ردة فعل وطنية مضادة لقوى 14 آذار والسلفيين، حتى إن حليفي الحريريين، زعيم حزب الكتائب الرئيس السابق أمين الجميل ووليد جنبلاط، ندّدا بالتهجم على الجيش وطالبا بالالتفاف حوله، ذلك كله إضافة إلى أن نجاح ميقاتي بتنفيس الاحتقان عن طريق إطلاق سراح الموقوف السلفي الملتبس الانتماء شادي مولوي، أدى إلى تطويق الأزمة وتداعياتها والعودة إلى معالجتها بوسائل سياسية ودبلوماسية .
إلى ذلك، اكتسبت الأزمة جانباً إضافياً مقلقاً بقيام مجموعة مسلحة باختطاف 11 لبنانياً في محافظة حلب في أثناء رحلة الإياب من زيارة للأماكن المقدسة في إيران والعراق . الحادثة نبهت اللبنانيين، مسؤولين ومواطنين، إلى مخاطر تفجير فتنة بين أهل السنّة وأهل الشيعة لن يكون أحد بمأمن من مضاعفاتها السلبية . غير أن مبادرة محسوبة من العاهل السعودي الملك عبدالله بن عبدالعزيز سرعان ما برّدت الأجواء . فبرقيته إلى رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، وإن أبدت “القلق من استهداف إحدى الطوائف الرئيسة التي يتكون منها النسيج الاجتماعي اللبناني” (أي أهل السنّة) إلاّ أنها حذرت من خطر الفتنة الطائفية والحرب الأهلية، داعيةً الرئيس سليمان إلى ممارسة حكمته في رعاية الحوار الوطني اللبناني و”النأي بالساحة اللبنانية عن الصراعات الخارجية، خصوصاً الأزمة السورية المجاورة لها” .
مبادرة الملك عبدالله الذي كانت بلاده امتنعت عن مجاراة دول خليجية أخرى في دعوة مواطنيها إلى عدم السفر إلى لبنان بسبب الظروف الراهنة، فسرتها الأوساط السياسية اللبنانية بأنها تنطوي على دلالتين مهمتين: الأولى، دعم السعودية لسياسة “النأي بالنفس” التي يعتمدها ميقاتي، الأمر الذي يعني معارضة الرياض دعوة الحريريين إلى استقالة حكومته . والثانية، دعم السعودية لمطلب الرئيس سليمان ورئيس مجلس النواب نبيه بري في العودة إلى طاولة الحوار الوطني لمعالجة الأزمة وتداعياتها .
مبادرة الملك عبدالله واحتمال العودة إلى الحوار الوطني، لن ينهيا الصراعات على الساحة اللبنانية، ذلك أن ثمة صراعين، دولياً وإقليمياً، يُبقيان فتيل الأزمة مشتعلاً . إنهما الصراع على برنامج إيران النووي وتداعياته الإقليمية، والصراع بين لبنان و”إسرائيل” وتركيا وقبرص، وربما سوريا أيضاً، على الثروة الغازية في قاع المناطق الاقتصادية الخالصة المتداخلة بينها في شرقي البحر المتوسط .
الكل على سلاحه بسبب هذه الثروة الاستراتيجية، وقلة بين تلك الدول تقبل بالولايات المتحدة حكماً في الصراع الضاري بينها .