أشجار الحليب والقشدة

نهلة السوسو. تشرين
نلتقي في حياتنا بآلاف مؤلفة من الوجوه, ولا ندري لأي سبب يتشبث بعضها بذاكرتنا, ذلك التشبث الذي لا يهتم باليوم الذي عرفناهم فيه,.
ولا بلحظة اختفائهم من حياتنا وكأنهم صفحة غير مرقّمة, ومنتزعة من كتاب, ففي ثمانينيات القرن الماضي, كان في الإذاعة سائق اشتهر بين الموظفين بقصصه التي لا يقبلها عقل حتى بتنا نصف الأكاذيب اللا معقولة (وما أكثرها في أجوائنا) بأنها من حكايات فلان!
حدثني ذات رفقة طريق عن بستان دراق لأحد أقربائه, يسقي شجره بالحليب وحملت أشجاره أثماراً مملوءة بالقشدة وقد تذوقها بنفسه, بحيث ما عادت قشدة بائع في أسواق الشام تعجبه, وروى لي أنه ألقى في حديقة جاره بذرة عنب, فنبتت دالية ما لبثت أن دنت بقطوفها وملأت السلال بالعناقيد والأكياس بالزبيب, وأخبرني بكل مصداقية أن جده شارك في إحدى الثورات العربية وله ضريح في بلد مغربي يأتيه رئيس الجمهورية, مع قادة الجيش لتحيته ووضع إكليل من الزهر على شاهدته في ذكرى الاستقلال السنوية!
كنت أستعد لكذبة جديدة أعطيها أذناً لا مبالية كلما فتحت باب السيارة لأجلس مع غيمة همومي وتوقعات التوتر التي هي من صلب عملنا الإعلامي إلى أن زجّني في كذبة لا تحتمل لتبرير تأخره عن العمل مدة ثلاثة أرباع الساعة ما يعني تأخير عشرة موظفين على الأقل.. أقلّني في فجر أحد الأيام, وبادرني بأنه تأخر لأسباب إنسانية, إذ صادف امرأة رماها زوجها في الشارع نصف عارية مع ثلاثة أطفال وقد سلمها لشيخ الجامع الذي كان قريباً منه, قبل أن يصل إليّ, لأن حماية العائلة المشردة أهم بكثير من افتتاح الإذاعة في موعدها, وإذ طلبت منه, كابتةً غضبي, أن يزيد سرعته, أوقفنا أحد حراس مدخل مشروع دمر, لحظة, ليسألنا عن وجهتنا في مثل هذه الساعة المبكرة من الفجر, لنمضي بعدها وأسمع منه حكاية يرويها لرئيس المرآب, مبرراً تأخره بأنني دخلت في حديث طويل مع رجل أمن أشهر سلاحه في وجهنا ومنعنا من المغادرة ورغم توسلاتي أدار ظهره لنا وهو يتصل بالضابط المسؤول عنه, لأن سرقة كبيرة حصلت في الليل في أبنية غير مسكونة في خمس جزر من جزر المشروع!
نسيت هذا الرجل بعد أن طلبت عدم تكليفه بنقلي وكنت أضيق غريزياً حين أراه على كرسي عتيق بباب المرآب يتأمل الغادي والرائح وهو بعباءته العربية المقصبة, كأنه زعيم عشيرة ينتظر المنسف, حتى عاد إليّ, بإلحاح, بجملة أكاذيبه المبتكرة بسهولة, على مدار الساعة والدقائق, إذ تذكرني به فضائية عربية تروي قصصها على طريقته التي لا يستقيم معها عقل ولا منطق, فهي تحذف من الوجود حقائق مرئية وساطعة لتنشئ وقائع على هواها, وتكررها وتعيدها.. لتنهك عقل السامع والمشاهد, وتجعله يكف عن المحاكمة, ليصل إلى مرحلة تسليم دماغه لأقدارها, على طريقة القرون الوسطى بالتعذيب المعتمد على الطّرق الرتيب, وإن كان صاحبنا متذوق قشدة الدراق يكذب لدوافع قد لا يعلمها إلا خالقه وقد تحول إلى موضوع تندر في محيطه, فإن صاحبتنا الفضائية باتت كثيرة الغثيان, لكثرة ما كابرت وأصرت على جعل الحارس البسيط رجل أمن مسلحاً يحاسب موظفة عابرة في سيارة عمل, على سرقة عشرات البيوت في ظلمة الليل, ولو كان ذلك الكذاب يروي حكاياته من دون تجهم وأيمان مغلظة لأحببناه حكواتياً, طريفاً, يسلينا على الطرقات بنوادره, لكنه كان يفتقر إلى ذكاء التوصيل والتواصل, بإلغاء ذكاء سامعه, تماماً كالفضائية المذكورة, التي تخلت عن الفطنة ليتقبلها جمهور جعلت منه عدواً لها, هي الزاعمة مساندته, وقد زعمت أنها الحقيقة الناصعة , والحقيقة تجري على أرضه وتحت نوافذه, وفي شوارعه, بأصوات واضحة غير مفلترة, تراها العين الواسعة لا شاشات الهواتف الجوالة, التي بحجم عقلة الإصبع, ما جعلها جالسة على كرسي في بوابة الأحداث, مصرّة على صنع الغادي والرائح من أطياف غرفها السوداء, وعليها, هذه المرة عباءة غير عربية لأنها ليست مقصبة ولا تستر العورة..