أكثر من ملوثة

 

 

 

نهلة السوسو. تشرين

 

لأن عائلة مهجرة من حمص تقيم معي في بيتي الصغير إقامة مسافرين في مقطورة قطار متوقف, اضطررت قسراً للتخلي عن كثير من عاداتي التي ذهبت إليها مع التقدم في العمر!.

 

بتُّ مضطرة للتخلي عن القراءة, كي أتابع بعض برامج التليفزيون مع رب العائلة الذي يبحث عن أخبار أهله وأقاربه وأصدقائه في تلك المدينة, التي سمتها إحدى ممرضات المركز الصحي, حيث ذهبت مع الأم لالتماس دواء لابنها المصاب بالسكري: منطقة منكوبة! تخليت لرب العائلة عن الروموت كنترول ليستمع إلى الخبر المصاغ في غرف الأخبار ويرده إلى ما سمع وشاهد وعاش في مدينة باتت بالنسبة له - وهو حبيس المنزل منذ شهور- ملعباً لمسلحين مجرمين, أغلقوا المدارس والدكاكين وملاعب الأطفال المتواضعة, ونوافذ البيوت التي نسيت الضوء والنسيم, وقطعوا السبل بين الأحياء والعائلات, ولوثوا الأرصفة بالدم وملؤوا الشوارع بتلال القمامة والرؤوس بمشاهد الجثث المقطعة! ‏

 

فظائع باتت معروفة ونالت أقرب الناس إلينا, لكن عيون الأطفال المتحجرة, الصامتة وبعض كتبهم المدرسية التي حملوها على عجل, دون ملابسهم ومتعلقاتهم الشخصية بَلْه, ألعابهم, كانت الأفظع فيما حلّ بمنزلي, لأنهم فكروا بالامتحانات القادمة, رغم حرمانهم من الدوام, أكثر مما فكروا بالملابس والجوارب وفراشي الأسنان وأمشاط الشعر, وماذا عما بقي من متع الأطفال؟ ماذا بقي من برامجهم المرئية المفضلة التي حرمهم منها الكبار, المتوهمون البحث عن حقائق جديدة في هذه الحرب القذرة وغير المسبوقة على بلد الجمال والحب الذي أورق في كل الظروف, عالماً من الإبداع في العلاقات الاجتماعية الحميمة وخلق مسرات خاصة به؟ ‏

 

صادف أن تابعت مع هذه العائلة ندوتين تلفزيونيتين, كان في الأولى دبلوماسي روسي سابق يتقن العربية بنصها وروحها, وشيخ مزعوم في مقتبل العمر, لا أدري في أي كلية أو معهد شرعي تعلم, ولا في أي بيئة تدرب على مثل هذه البذاءة وسوء التهذيب, المفترض أن أي حديث نبوي شريف, ينهى عنه, ويقي منه اللسان, إذ انقض على الدبلوماسي يسب ويشتم, تارة شيبته - كأن الشيب بحد ذاته عار يشتريه المرء من سوق الأدوات المستعملة- وتارة نساء بلده اللواتي ملأن الشوارع العربية بالداعرات, متجاهلاً, عمداً, أن هذه المهنة هي تجارة يقوم عليها مستوردو هذه الشوارع في عاصمة المحطة التي يتحدث منها وغيرها من المدن, وحاذفاً حقيقة أن الأدب الروسي هو أعظم آداب الإنسانية على الإطلاق, وربما بلفّة رأسه المزعومة لم يقارب في حياته كتاباً أدبياً من أي لغة في العالم, ولو فعل ما وصل إلى هذا الدرك من الإسفاف وقلة الأدب, وهو ينتمي إلى أمة يوقر فيها الصغير الكبير حين يخاطبه, ويرعوي قليلاً, احتراماً لملابس المشيخة التي فصلت له قبل انتقاله من استطنبول إلى تلك المدينة العربية, متسولاً المال الذي سيمنحه الإقامة في الفنادق الفخمة وكلمات الثناء على أدائه الخارق في الندوة لأنه طفح بكل ما طلب منه من ردح وشتم وقلة أدب, دون أن يفكر من أي بوابة سيعود إلى بلده وأحضان أهله, إن فكر يوماً برد الجميل إلى أبيه والتواصل مع أهله وإخوته هو الذي فصل التوابيت ونثر شهادات الزور يميناً وشمالاً وأزبد وأرغى وهدد وتوعد, ربما لأن مرآة لم تتوافر ليرى طول قامته وإشعاع هيبته! ‏

 

قبل أن يتاح لي النظر في عيون الصغار الذين أجبروا على استبدال دروس التربية على مقاعد الصف, بمثل هؤلاء المعلمين الجدد - وهم من تلاميذ المحافظين الجدد- نقل والدهم إلى محطة أخرى لتبدأ ندوة بثلاثة ضيوف هذه المرة تحدث اثنان منهم بهدوء واحترام قبل أن ينفلت الثالث الذي قدم نفسه على أنه سلفي, بحفلة ردح طبق الأصل عن المتمشيخ السابق! نفس الفجور الحركي واللفظي والفكري, مما لا يفوت على المرء أن هؤلاء مبرمجون على أنه أياً كان الموضوع المطروح ابدؤوا برجم دمشق, وخذوا الناس بالصياح والسباب وتهشيم الضيف بصفته العلمية وتجربته المعرفية وانتمائه القومي وموقفه الإنساني, واستحضروا لغة, شجارات الشوارع التي يستخدمها الرعاع والخارجون عن القيم, ما دامت شعارات بعض المتظاهرين لم تجد نفعاً ولم تسقط وطناً.. وهو ذات الوطن الذي يمد بصره إلى مسطحاته المائية الغالية كي يحفظها من التلوث, بعد أن حفظ جسده من هذا التلوث القادم إليه من أدعياء حب حرية الشعب, حتى وهم يحاولون تحطيم عظام هذا الشعب! أقلنا: تلوث؟ بل هي وجوه وقلوب وغايات, وأصوات أكثر من ملوثة, وأثقل من أن يتحملها طفل حماه أهله من قصف النار, لكنه عجز عن حمايته من هذا القصف المشين, الذي حيثما أصاب فاحت منه رائحة الغاز والبترول والدولار, ولعله لن يخلف إلا غباراً يأخذ بأصحابه إلى حيث يستحقون.‏