أمريكا اللاتينية.. والاعتراف بالدولة الفلسطينية

مع توالي اعترافات المزيد من دول أمريكا اللاتينية بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس, فمن واجبنا ـ كأمة عربية ـ توثيق العلاقات مع دول القارة التي تجمعنا وإياها علاقات تاريخية تمتد إلى العصور الوسطى، وقضايا مصيرية في إطار العالم الثالث ومصالح متبادلة على مستوي العلاقات الثنائية والإقليمية وشكلت القمة العربية ـ اللاتينية( المعقودة في البرازيل في ايار 2005) دفعة إيجابية لتوثيق العلاقات الثنائية والجماعية في مختلف المجالات.
وثمة دلائل كثيرة تؤكد الجذور التاريخية للعلاقات العربية الأمريكية اللاتينية وتكفي شهادة المؤرخ البرازيلي الشهير جواكيم ريبايرو بأن العرب زاروا البرازيل قبل البرتغاليين, واعتمد في تأكيد مقولته هذه على رسالة ديان جويس مؤرخ القرن السادس عشر المرفوعة إلى الملك جون هنريك الذي أمر بإعادة اكتشاف البرازيل مرة أخرى, لأن الملك كان يقدر خبرة الملاحين المغاربة العرب في هذا المجال.
ومعنى هذا أن كريستوفر كولومبس لم يكن له فضل اكتشاف العالم الجديد( أمريكا الشمالية والجنوبية) كما أن البحار والمحيطات لم تكن في عزلة تامة عن سكان القارات فالبحرية العربية في العصور الوسطى هي التي أعطت قاموسها الملاحي كاملا أو شبه كامل للقارة الاوروبية, فالبحرية العربية كانت وحدها ـ آنذاك ـ تملك أسرار المحيطات ومفاتيحها الملاحية فلكيا وهي التي رصدت نجومه وحددت مسمياته.
وإذا كانت البرتغال قد وصلت إلى البرازيل بفضل خبرة أحمد بن ماجد فإن اسبانيا سيطرت على بقية أمريكا اللاتينية وشكلت أمبراطورية اسبانية ضخمة وكل من البرتغال واسبانيا وصلت إلى العالم الجديد لتجد هناك بصمات العرب على هذه الأرض.
ويكفي الإشارة هنا إلى ما يؤكده مؤرخو المغرب العربي بأن اسم البرازيل نفسه يرجع إلى اسم القبيلة البربرية المسيلية بني برازل أو البرازلة الذين هاجروا من المسيلة( الجزائر) في القرن العاشر الميلادي إلى الأندلس ومنها إلى أمريكا حيث انتهي بهم المقام في برازيل.
تلك صفحات مفقودة في تاريخ العلاقات العربية الأمريكية اللاتينية من الأهمية إجراء المزيد من البحث والتنقيب عن مادتها التاريخية الكاملة وتوثيقها.
وفضلا عن الجذور التاريخية للعلاقات العربية ـ الأمريكية اللاتينية فإنه مع بداية العصور الحديثة تعرضت أراضي الوطن العربي وأمريكا اللاتينية للاستعمار التقليدي وظلت المقاومة سنوات طويلة موجهة إلى عدو واحد مشترك, وقدر لموجة التحرير في أمريكا اللاتينية أن تسبق موجة التحرير في الوطن العربي حيث نالت دول أمريكا اللاتينية استقلالها في الربع الأول من القرن التاسع عشر بينما بدأت موجة التحرير العربية في الربع الأول من القرن العشرين.
ومع بداية عصر التنظيم الدولي بإنشاء عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى بدأت الدول العربية المستقلة آنذاك تلتقي مع دول أمريكا اللاتينية في المنظمات والمؤتمرات الدولية وشاركت5 دول عربية مع18 دولة أمريكية لاتينية في إطار مؤتمر سان فرانسيسكو عام1945 الذي حضره ممثلو50 دولة لصياغة ميثاق الأمم المتحدة وبعدها توالي انضمام الدول المستقلة.
وتوالت لقاءات الدول العربية مع دول أمريكا اللاتينية على مستوى المزيد من المنظمات والمحافل الدولية ابتداء من حركة عدم الانحياز, الدول النامية وحركة شعوب القارات الثلاث, ومنظمة الأوبك.. الخ
وبرغم المصالح المشتركة بين الدول العربية ودول أمريكا اللاتينية التي التقت من أجلها في إطار مثل هذه التجمعات والمنظمات والمؤتمرات فإن لقاء المجموعتين معا لم يتحقق إلا مرة واحدة في القمة العربية ـ اللاتينية المعقودة في البرازيل عام2005 وسبقتها ندوة عن الحوار الثقافي ـ العربي ـ اللاتيني في ديسمبر2002 بإشراف المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
ومع مبادرة أمريكا اللاتينية الحالية بالاعتراف بالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس, فإن الكرة حاليا في الملعب العربي ـ وفقا للمصطلح الكروي المعروف ـ بمعنى أن المبادرة المتوقعة مبادرة عربية باتخاذ خطوات لتوثيق الحوار والتعاون والتفاهم مع دول أمريكا اللاتينية لتطوير العلاقات الثنائية والجماعية ولعل الخطوة الأولى في هذا المجال هي دعم التمثيل الدبلوماسي الشامل بين مختلف الدول العربية ودول أمريكا اللاتينية, ومما يعزز الجهود الدبلوماسية العربية وجود جاليات عربية قوية وهي موجودة منذ عشرات السنين وقد استطاع هؤلاء المهاجرون الانصهار كلية في المجتمعات التي هاجروا إليها. كما نجح بعضهم في احتلال مكانة ملحوظة فمنهم كبار الضباط والساسة وأعضاء البرلمان. ومن الأهمية هنا تنشيط ذاكرة الأجيال العربية هناك بالوطن الأم. وفضلا عن دعم التمثيل الدبلوماسي وتنشيط دور الجاليات العربية تبرز اليوم أكثر من أي وقت مضى المصالح الاقتصادية حيث تتطلع دول أمريكا اللاتينية بالفعل إلى الاستثمارات المالية العربية وفضلا عن هذا وذاك فإن التبادل والتفاهم الثقافي يحتلان مكانا رائدا في توثيق العلاقات مع دول أمريكا اللاتينية.
وأخيرا فنحن العرب أصحاب قضية مزمنة بدأت من عشرينيات القرن الماضي. وتتطلب عملا عربيا مشتركا ومتصلا مع دول وشعوب القارات الثلاث( افريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية) التي تشكل الإجماع الدولي الغالب في المحافل الدولية وما أحوجنا إلى هذا الإجماع الآن وأكثر من أي وقت مضى لمناصرة حقوق الشعب الفلسطيني.
الاهرام