أمريكا بين عرفات وعباس

 

 

كان ياسر عرفات .. رحمه الله، يكثر من القول.. " انا اكثر انسان حاربته امريكا.. واكثر انسان دخل البيت الابيض"..

ولو جرب أي باحث او حتى فضولي، احصاء فناجين الشاي والقهوة التي احتساها عرفات وخلفه عباس في البيت الابيض، لبلغ عدددها اضعافا مضاعفة، لما احتسى اهم زعيم اوروبي حليف..

ومنذ ان استوفت القيادة الفلسطينية، شروط الجدارة بالصلة الامريكيىة وفق مقاييس كسينجر.. والعلاقة الفلسطينية الامريكية، تسير بسلاسة وتفاهم.. الا من بعض المنغصات ،مثل قضية اختطاف السفينة التي كان بطلها انذاك المرحوم ابو العباس، حيث جمدت الصلة الا انها عادت لتستقر سنوات وسنوات بعد الاحتفال الزاهر في حديقة البيت الابيض، والذي اقيم بمناسبة التوقيع على اتفاق اوسلو ، حيث الصورة التاريخية التي ظهر فيها شمعون بيرس ومحمود عباس يجلسان على الطاولة ، ويقف وراءهما المضيف الشاب والوسيم بيل كلينتون، وشخص كان يعرفه قليلون هو كوزيريف وزير خارجية روسيا الاتحادية واسحق رابين الذي تردد قليلا قبل ان يمد يده لمصافحة الرجل الرابع مع الواقفين ياسر عرفات.

كان تردد رابين للحظة، مثلما فهمت بعد ذلك بزمن قصير اشبه بالمهلة التي استغرقتها عملية حشو المسدس الذي اجهز عليه في ميدان ملوك اسرائيل وهو ينشد مع الجموع نشيد السلام القادم..

منذ تلك اللقطة التاريخية بحق، كان الجانبان الفلسطيني والامريكي ، كل يراهن على الاخر دون تدقيق في الامكانيات والقدرات ..

فالامريكيون ، رأوا بعد حرب الخليج في ياسر عرفات الزعيم الاقدر على ادارة مفاتيح الاقفال المستعصية فيما يسمى بالمعضلة المزمنة وعنوانها تسوية النزاع الشرق اوسطي بتسوية بؤرته الرئيسية وهي القضية الفلسطينية..

والفلسطينيون .. رأوا في اعتراف الدولة العظمى بهم، واستعدادها لدعم مشروعهم في اقامة الدولة ولو جزئيا وعلى مراحل ، تحولا استراتيجيا يستحق الرهان وفق فهم السادات للقدرات الامريكية.. أي فهم التسعة والتسعين بالمائة من اوراق الحل بيد امريكا..

وما ان مضت العملية على الطريق الوعر حتى بدأ كل طرف يكتشف فهم وقدرات الطرف الاخر الحقيقية، وتحت غلالة كثيفة من التبجيل المتبادل والاحتفاء على مستوى القمة ، حيث زيارة كلينتون لغزة وبيت لحم والتماسة العفو الالهي في المذوذ المقدس كي يعبر مأزق لوينسكي الى جانب عبور مأزق المشروع السلمي الصعب والخطر

تحت تلك الغلالة المضللة، كان الامريكيون يبثون مر الشكوى من الشريك عرفات الذي لم يفلح في اجتياز سباق الحواجز الامريكية كما يجب .. وكان عرفات لديه ما ينتقد ويدين كلما انكشف البعد الاسرائيلي في السياسة الامريكية وكان لا يتردد في القول همسا احيانا وصراخا في احيان اكثر .. ان الامريكيين اما عاجزين او متواطئين

ورغم انكشاف الحقائق في امر القدرات وحتى كيفية ممارسة السياسات الا ان الجانبين ظلا اسيرين للهوامش الممكنة او المحتملة.

ظل الفلسطينيون يراهنون ويستعينون بالعرب والاوروبيين لاحداث تغيير معقول في الاتجاه الامريكي، مستخدمين فكرة "لا مناص من قيام امريكا بالضغط على اسرائيل كي تذعن لمتطلبات السلام الدائم والعادل"، اما الامريكيون فقد واصلوا بأناة وطول بال عملية ترويض الزعيم الفلسطيني من اجل مزيد من التكيف مع القواعد الامريكية للعبة وهي بأي حال ليست قواعد وضعها رئيس او حزب او ادارة بل هي من صنع الاطار الاقوى في امر تقرير السياسات وتوجيهها وهو الكونجرس الذي لا ينطق عن هوى بل يضع التشريع الذي لا يجرؤ أي رئيس على تجاوزه الا في حالات نادرة وتكاد لا تذكر.

وصل الامر مع عرفات الى منتهاه أي الى خلاصته المأساوية حيث احتجز الرجل في المقاطعة وفي ادراج مكتبه وثائق جائزة نوبل للسلام، واسدل الستار اخيرا على حقبة عرفات والحلم الامريكي الذي تحول الى كابوس ليدخل الفلسطينيون والامريكيون حقبة جديدة هي حقبة ادارة بوش الابن واوباما ورئاسة عباس.

مع تغير الادارات والاشخاص لم تتغير الفكرة الاساسية التي حكمت العلاقة المباشرة بين الجانبين، فالامريكيون يريدون من عباس ان يفعل ما لم يستطع عرفات فعله، دون التدقيق الكافي في الاعتبارات التي تمكن أي زعيم فلسطيني وتحدد قدراته على التصرف، والفلسطينيون في مرحلة عباس يريدون من الامريكييين ان يستفيدوا من الانهيارات التي وقعت في حقبة الادارة السابقة وان يعملوا بجد وفاعلية لتفاديها بما يتيح لسفينة السلام وصولا الى شواطئها المأمولة.

لم يفهم الامريكيون الفلسطينيين جيدا وواصلوا اعتناق الفكرة الاساسية من وراء العلاقة معهم، اما الفلسطينيون الذين ينتسب رئيسهم الجديد الى معسكر السلام بلا رتوش، فقد وجدوا انفسهم كما لو انهم يسافرون على محيط دائرة ما ان تحترق انفاسهم في قطع المسافات حتى يجدوا انفسهم اخيرا عند نقطة البداية .

ذلك حدث ولكن لم تكن مؤثراته محض فلسطينية وامريكية بل كانت اسرائيل ومن خلال علاقاتها العريقة مع امريكا .. ادارات وكونجرس وباقي المؤسسات المعقدة والكثيرة المؤثرة في صنع القرار الامريكي .. كانت اسرائيل تراقب مجرى العلاقة الامريكية الفلسطينية ولا تتوانى عن العمل المباشر وغير المباشر لجعل هذه العلاقة منضبطة تحت الاسقف المناسبة لها، كان لاسرائيل ارض العلاقة وجذورها وافاقها الا انها في ذات الوقت راحت تنازع الفلسطينيين على الهامش الضئيل الذي اوجدته العلاقة المستجدة معهم، كانت اسرائيل الضابط الحقيقي لمستوى العلاقة الفعلي ومخرجاتها العملية وكانت دائمة التنظير لفكرة ان لا يزج الامريكيون انفسهم في امر الفلسطينيين . "اعطوهم بعض ما يحتاجون من الدعم واتركوا الشأن السياسي لنا فنحن اعرف منكم بكيف تساق الابل".

ظل الامريكيون وربما حتى الان يدافعون عن الهامش الضيق الذي اوجدته علاقتهم المستجدة بالفلسطينيين والذي يتجسد الان بالاكتفاء بدور الوسيط الذي يسعى لان لا يتمادى الكونجرس في معاقبة الفلسطينيين وهذا ما فعله وزير الدفاع الامريكي الجديد حين زار المنطقة وانتقد توجه الكونجرس بوقف تقديم مبلغ المائتي مليون دولار والمبلغ بمقاييس الانفاق الامريكي لا يعادل ساعة واحدة من تكاليف الحرب على العراق او افغانستان.

وزير الدفاع الامريكي انتقد باسم الادارة الامريكية توجه الكونجرس ليس لان الادارة ترى في هذا الامر مؤثرا جوهريا على مشروع السلام بل لانه يؤثر على مجرى الجانب الامني في العلاقة الامريكية الفلسطينية الاسرائيلية ، وهو الجانب الاكثر حيوية واهمية في العملية كلها.

والآن..ارتفع منسوب السلب كثيرا في امر العلاقة الامريكية الفلسطينية .. وبداهة ان ينخفض منسوب الايجاب في المقابل.

السلب يعبر عنه الاستخدام الامريكي المفرط للفيتو أو التهديد به حيال أي مطلب فلسطيني ويعبر عنه كذلك خوض حرب عقابية ضد اليونسكو لتصويتها بالموافقة على انضمام فلسطين عضوا كامل العضوية في هذه المؤسسة الثقافية وليست السياسية المباشرة.. ومن المرجح ان يتضاعف منسوب السلب كلما توغل الامريكيون في معارك الانتخابات الرئاسية والتشريعية.

بعد كل ذلك .. لو سئل عباس الذي اصبح عنوان المواجهة الديبلومسية مع الولايات المتحدة في اليونسكو ومجلس الامن وحصل جراء ذلك على اتهامات خطرة من قبل رئيس الحكومة الاسرائيلية ، وتهديدات تطال حياته من قبل وزير الخارجية الاسرائيلي مع انتقادات من كل نوع تنقل عن نافذين في الكونجرس.

لو سئل ما الذي يدعوك الى القول ان امريكا صديقتنا لقلت نيابة عنه.

ما لي حيلة وامريكا "شرا كانت ام غير ذلك" فهي امر لابد منه.