أوليفر ستون يفضح ثقافة الجشع في وول ستريت

 

في المشهد الأول من فيلم  "وول ستريت.. المال لاينام أبداً" يقدم لنا «أوليفر ستون» لقطة واحدة طويلة عن عملية تسلم أحد المسجونين متعلقاته الشخصية من أمانات السجن يبدو عليها القدم والكلاسيكية، وتنتهى اللقطة على تليفون محمول من الجيل الأول الضخم لتنتقل الكاميرا إلى وجه السجين الذي هو «جوردن جيكو» – «مايكل دوجلاس» - الذى ينظر إلى التليفون الضخم نظرة ذات مغزى.. حيث إنه أحد أبطال الجزء الأول من الفيلم عام ١٩٨٧ وكان يدير منه أعماله.. وهو نفس التليفون الذي قال من خلاله لتلميذه فوكس- «شارلى شين» أن المال لا ينام أبداً وهو عنوان الجزء الجديد.. هكذا في لقطة واحدة وبذكاء سينمائي يصل «ستون» ما انقطع من فترة زمنية بين الفيلمين ومنذ المشهد الأول.

يلجأ «ستون» مباشرة إلى الغرافيك المتزن حيث يقوم برسم مؤشرات البورصة على مبانى نيويورك – حيث يقع شارع وول ستريت- مازجا في خباثة بين ارتباط هذه المباني ومؤشرات البورصة كنقطة هجوم بصرية.. فانهيار أسعار المباني نتيجة تضخم فوائد القروض عليها والعجز عن السداد هو السبب الرئيسي في انهيار البورصة الأمريكية ومن خلفها البورصات العالمية وحدوث الأزمة.. وتبدو خطة «ستون» البصرية في الفيلم واضحة من خلال هذا الاستخدام المحسوب للجرافيك..

 فبعد مشاهد قليلة نتابع حواراً بين «لويس زيبل» أحد كبار وول ستريت مع ربيبه «جاك» – الممثل «شيا لابوف» - حول التغيرات الاقتصادية والتكنولوجية التي حدثت خلال السنوات القليلة الماضية.. حتى إن عالمهم كله أصبح ينبع ويصب فى هذه «الشاشات» (شاشات الكمبيوتر التي تعرض مؤشرات البورصة وحركة المعاملات في كل العالم)، ومن هذه الجملة يدخل ستون في كثير من المشاهد إلى عمق هذا العالم الافتراضي متجولا بين خطوط الاتصال وأرقام المؤشرات الملونة.. بل يضع الشاشات بنظام المزج المونتاجي على وجوه الشخصيات أثناء حديثها عن عالم المال.. وكأن تلك الشاشات انطبعت على الوجوه بل والحياة كلها.. هو ليس أسلوب بصري جديد لكنه شكل مناسب لموضوعه.

وكعادة «ستون» لا تتوقف الكاميرا عن الحركة ولا تطول اللقطات حتى في أشد اللحظات انفعالية.. رغم أن الصراع في الفيلم يدور على أكثر من مستوى.. فلدينا المستوى الأول المباشر وهو الصراع بين تيكونات المال في أمريكا والذي يعتبر جزءاً من أسباب الأزمة من خلال المضاربات غير الشريفة وترويج الشائعات وتمويل مشروعات قصيرة المدى غير مضمونة النتائج من أجل أرباح كبيرة وسريعة..

هذا الصراع الذي يؤدى إلى انتحار «لويس زيبل» في البداية وبالتالي محاولة ربيبه «جاك مور» الانتقام عن طريق تحطيم من تسببوا في ذلك.. والمستوى الثاني هو محاولة «جيكو» استعادة علاقته بابنته «وينى» بعد خروجه من السجن الذى دخله قبل سنوات بسبب فضيحة مالية.. ونكتشف أن «وينى» هي خطيبة «جاك» وبالتالي تتداخل مستويات الصراع وتتصاعد خصوصا عندما نكتشف أن «جيكو» لم يرد استعادة ابنته سوى للحصول على ١٠٠ مليون دولار قام بتهريبها إلى سويسرا قبل سجنه..

وهنا يصبح «جيكو» رمزاً لكل ما هو مادى في عصرنا الحديث.. بل يصبح هو والمال - الذي لا ينام أبداً - شيء واحداً فهو لم ينم طوال تلك السنوات في السجن بل ظل مستيقظا منتظرا أن تأتى له الفرصة ليعود إلى اللعبة مرة أخرى- على حد تعبيره- مستغلا الانهيار الاقتصادي ليقوم بشراء الشركات الخاسرة.

رغم قلة عدد مشاهد «جيكو» بالمقارنة بالشخصيات الأخرى فإن شخصيته تتخذ أكثر من دلالة خصوصاً عندما يقوم بتحليل الوضع الاقتصادي الأمريكي قبل الأزمة.. بل الوضع العالمي القائم على الاستهلاك وليس الإنتاج في أحد أهم مشاهد الفيلم.. ثم يعود ليعلق على إحدى حفلات أصحاب رؤوس الأموال قائلاً لو فجر أحدهم هذه القاعة لن يجد العالم من يحكمه!

وينتهى هذا المشهد بدائرة سوداء تضيق على موائد الحاضرين حتى تظلم الشاشة ثم تنتقل بنا كاميرا «ستون» إلى قمم ناطحات السحاب ثم تهبط بسرعة رهيبة كتعبير بصري عن انهيار أسعار العقارات وانهيار مؤشرات البورصة وبالتالي حدوث الأزمة..

يعيب «ستون» في هذا المشهد استخدامه لأكثر من استعارة بصرية حيث يمزج ما بين لقطات الانهيار وبين صف من قطع الدومينو التي تقع بالتتابع وهى مبالغة ساذجة وطفولية لا تليق بقامته..

وبما أن الأفلام الجيدة هي التي تجبرك على إعادة مشاهدتها مرة أخرى فقد ضم الفيلم مستوى من التلقي يحتاج إلى مشاهد ذي عقلية فلسفية، فمن البداية وحتى النهاية هناك خط فلسفي أو لنقل كوني له علاقة بالتطور البشرى عبر الزمن من خلال فكرة الفقاعة التي نتجت عن الانفجار الكوني الكبير، والتي أدت إلى ظهور الجنس البشرى على الأرض..

فـ«ستون» يستخدم هذا الرمز لقراءة عملية التطور الإنساني حيث يعتبر أن كبار رجال وول ستريت مثل الديناصورات التي حدثت لهم أزمة كونية فانقرضوا.. ولكن ظهرت أجناس جديدة أقل حجماً وأسرع حركة وأكثر خطورة، وهو ما يرمز له بشخصية «لويس زيبل» ديناصور ثم «بريتون جيمس»

وأخيراً «جيكو» مرة أخرى، الذي كان أحد هذه الديناصورات في الماضي ثم اندثر وبُعث من جديد في صورة أخرى تماما مثل الطاقة التي لا تفنى.. ولكنها تنتقل من شكل إلى شكل.. هذا المستوى الفلسفي يحتاج إلى إعادة مشاهدة الفيلم لتطبيقه على كل مستويات الصراع الدائر خلال الأحداث.. لكن مما لا شك فيه أن الجزء الثاني من «وول ستريت» من خلال عيني «أوليفر ستون» يدل على أنه إذا كان المال لا ينام أبداً، فالسينما أيضاً لا تُغمض عدساتها.

 

شام نيوز- مجلة ريفيو