أومن أن خلف الريح ...
هيام حموي. البعث
في الشهر الأخير من القرن الماضي، وفي تلك الليالي الرمضانية التي سبقت انتقال روزنامات العالم من الرقم 1999 إلى الرقم 2 برفقة الأصفار الثلاثة، تم تقديم برنامج إذاعي بعنوان “وداعاً للقرن العشرين”، استضاف ثلاثين شخصية عربية من مختلف الأقطار، ما بين أدبية وفنية وحتى سياسية، لرصد تداخل وقائع حياة هذه الشخصيات المرموقة بأحداث القرن العشرين، وكان من بينها أديبنا السوري الكبير الدكتور عبد السلام العجيلي، الذي برع في الطب كما في الأدب والسياسة، وعن السؤال المستفسِر حول اللغز الذي يؤرقه من ألغاز القرن العشرين، أجاب، وهو رجل العلم والمنطق، بأن بعض الظواهر القاهرة التي تشبه السحر، والتي شاهدها هو شخصياً، فيما العقل يقف أمامها حائراً، لا بد وأن لها تفسيراً علمياً بحتاً، غير أن الأبحاث لم تتوصل لمعرفة سرّها، ضارباً كمثال ما أتى على ذكره في روايته “أرض السيّاد” حول الأشخاص القادرين على طعن أماكن معينة من أجسادهم دون أن يُصابوا بأي أذى، معرباً عن قناعته بأن العلم كفيل بالوصول إلى كشف كنه اللغز الشبيه بالمعجزة.
من منّا لم يراوده الخاطر المجنون بتمنّي حدوث معجزات منقذة عندما توصَد في وجهه أبوابُ الرجاء، لكننا نضطر للعودة إلى الواقع الذي يفرض علينا التحرّك في أحلك الظروف فنكتشف أننا بخلطة بسيطة من الإرادة والعزم نصل إلى تحقيق ما نظنه مستحيلاً...
عندما تنبئنا حكايات ألف ليلة وليلة بأن الساحرة العجوز، قد أعدّت مثلاً الترياق العجيب، الذي سيجلب النصيب للصبية العانس، من مسحوق عُرْفِ الديك البنفسجي الأعزب المذبوح حلالاً عند ظهور الخيوط الأولى من فجر الليلة الثانية لظهور القمر بدراً، وقد أضافت إليه ثلاث قطرات من لعاب سحلية بكر، تم اقتناصها في أول أيام الشهر القمري السادس، فإننا نفكر بأن انصراف هذه الصبية إلى تثقيف ذاتها والاهتمام بشكلها سيوفر عليها كل عناء البحث المضني عن الترياق الخارق، الذي يشكل إعداده معجزة بحد ذاتها، وهي إن فعلت، ستجد على الأغلب أن العنوسة ما عادت مشكلة أولوية.
ومع ذلك فإن بعض ما يرويه أصدقاءٌ لنا يردّنا إلى الحيرة أمام الظواهر الخارقة، ويعيدنا إلى دهشة طفولتنا الطازجة عندما نستمع على سبيل المثال إلى ما عاشته صديقتي الإعلامية الجريئة التي لا تهاب المخاطر، والتي كانت قبل قرابة عقد ونيف من السنوات، في تغطيتها لإحدى دورات مهرجان المحبة في اللاذقية، قد أصرّت على الهبوط مع المظليين آنذاك في استعراضهم المحلّق، وكان لها ما أرادت، إذ لم تقف قوة أمام إصرارها، وها هي تعاود الكرة قبل شهور في طموحها المغامر فتقرر تسلق جبال الهيمالايا من جهة النيبال، مع مجموعة رحالة أوروبيين، يصحبهم دليل محلّي.. تروي عن معجزة عاشتها خلال الرحلة فتقول: في اليوم الأخير لرحلتنا، عندما شارفنا على بلوغ القمة الموعودة، أصر الدليل على إيقاظنا باكراً لنشاهد خيوط الفجر الأولى، فصحونا لنجد الأجواء غارقة في ضباب كثيف، والغيوم المتلبدة تقتل في نفوسنا كل احتمال ببصيص أمل في مشاهدة سنتمتر مربع واحد من نور الشمس في السماء، تعكّرت أمزجتنا، ورحنا نتذمّر كأوروبيين، من أحوال الطقس ومن خيبة الأمل، لكن الدليل النيبالي طلب منا بكل هدوء وجدية أن نجلس بانتظام وأن نرفع برؤوسنا إلى السماء وأن نبدأ بالنفخ باتجاه الغيم كي يتبدد، لم يغب عنه ما لاحظه من سخرية في أعيننا، لكننا امتثلنا للأمر، ثم تقول الإعلامية المغامرة: صدّقي أو إن شئت لا تصدّقي، لم تمر سوى دقائق حتى انشق الغيم في السماء كاشفاً عن أروع مشهد رأته عيناي في حياتي كلها، وأنا غير مصدّقة.. المشهد انتزع شهقة جماعية منا ثم عادت الغيوم لتنغلق على ذاتها ولتحجب السماء والشمس من خلفها.
صدّقتها.. صديقتي، لأن الإيمان بإمكان حصول المعجزات عامة يمنحني قوة لتحقيق معجزتي الشخصية الخاصة ولأردد مع الرحبانيين الثلاثة ، عاصي ومنصور وفيروز:
“...أومن أن خلف الريح الهوجاء شفاه تتلو الصلاة، أومن أن في صمت الكون المقفل من يصغي لي، أني إذ ترنو عيناي للسماء تصفو الأضواء تعلو الألحان .. كلي إيمان".