أوهام جمال أم أوهامنا نحن؟

 

حلّ السيد جمال مبارك هذا الأسبوع ضيفاً على أكثر من قناة تليفزيونية، مصرية وعربية. فقد شاهدناه مرة على قناة «العربية»، في حديث خاص مع السيدة راندا أبوالعزم، مديرة مكتب القناة في القاهرة، ومرة أخرى على القناة الثانية المصرية، ضيفا على برنامج «مصر النهارده»، الذي يقدمه الإعلامى خيري رمضان.

قلت لنفسي وأنا أحاول جاهدا متابعته هذه المرة باهتمام أكبر من المعتاد: «لماذا لا تنسى حكاية نجل الرئيس هذه وتتعامل مع الرجل كأي مسؤول آخر في الحزب، أي بصفته أمينا عاما مساعدا وأمينا للجنة السياسات، ومرشحا محتملا للرئاسة، شأنه شأن بقية أعضاء الهيئة العليا، وتكتفي بالإنصات إلى ما يقول الرجل وما يعتقد أنه يؤمن به حقا وقادر على إنجازه، دون أحكام أو قناعات مسبقة قد تكون متأثرة بانحيازات أيديولوجية أو سياسية معينة؟». وقد فعلت، وبذلت أقصى ما أستطيع من جهد كي أستمع إليه بكل الحياد الممكن إنسانيا، على أمل أن أغير من رؤيتي له.

ساءلت نفسي، حين رحت أسترجع ما استقر في ذهني من انطباعات عقب تلك الأحاديث المطولة، التي صال فيها وجال، عما إذا كانت قناعاتي السابقة عن جمال مبارك قد تغيرت، فجاءت الإجابة سريعا بالنفي. وبوسعي الآن أن أقول باطمئنان وبعد طول تأمل إنني أصبحت أكثر اقتناعا من أي وقت مضى بأنه ليس لدى جمال مبارك أي برنامج إصلاحي حقيقي قادر على انتشال مصر من كبوتها الراهنة، ولا يشغله شىء آخر سوى الوصول إلى مقعد الرئاسة، وأنه سيبذل أقصى ما في وسعه لتحقيق هذا الطموح، بصرف النظر عن عواقبه المحتملة. أما فيما يتعلق بي شخصيا، فمازلت على يقيني القديم بأن مشروع التوريث إن نجح، لا قدر الله، فسيكون وبالاً على مصر وشعبها.

أما أسبابى فى ذلك فهى كثيرة، ربما كان أهمها أن جمال بدا هذه المرة أشد اقتناعا: ١- بأن الحزب تحول على يديه من «حزب الحاكم» إلى حزب سياسى حقيقى له إطار مؤسسى تُصنع بداخله سياسات وبرامج ولديه آلية واضحة ومستقرة لاتخاذ القرارات. ٢- بأن دوره فى الحزب بات محكوما بآليات عمل مؤسسية لا علاقة لها بشخصه أو بجيناته الوراثية كابن لرئيس الدولة!.

وتأسيسا على هذه القناعات حاول جمال أن يقنعنا بدوره بأن رفض الحزب عدم الكشف عن مرشحه للرئاسة يعود إلى أن قرار الترشيح للرئاسة هو قرار حزبى يُتخذ داخل أطر آليات مؤسسية ويخضع لتوقيتات محددة، وبالتالى فليس بوسع أحد أن يتكهن به منذ الآن. وهذا كلام لا يمكن أن ينطلى على أحد وليس له من تفسير عندى سوى أن عملية الاختيار باتت محصورة من الناحية العملية بين الابن ووالده، ولأن هذا الموضوع لم يحسم أسريا بعد، فما زالت تطوراته مفتوحة على كل الاحتمالات.

لقد كشفت أحاديث جمال ليس فقط عن قناعته التامة بالطريقة التى أدار بها أحمد عز اختيار مرشحى الحزب فى انتخابات مجلس الشعب، ولكن عن إعجابه الشديد بها أيضا، لدرجة أنه حاول تسويقها لنا باعتبارها نموذجا يحتذى فى الممارسات الديمقراطية، ودليلا مؤكدا على وجود آليات مؤسسية تسمح للحزب بحل صراعاته الداخلية بالطرق السلمية. وإن دل ذلك على شىء فإنما يدل على أحد احتمالين، الأول: أن يكون أحمد عز قد نجح فى تضليل جمال مبارك نفسه والتغطية على حقيقة ما حدث، والثانى: أن يكون جمال مبارك هو نفسه مبتكر الطريقة، التى حملت توقيع أحمد عز!. وأيا كان الأمر، فليس لهذه الطريقة، بصرف النظر عما إذا كانت تحمل توقيع جمال أم أحمد عز، علاقة بالديمقراطية من قريب أو بعيد.

صحيح أنها طريقة مبتكرة ثلاثية الأبعاد: تجمع بين استطلاعات رأى وانتخابات داخلية ومجمعات انتخابية، ومن ثم تبدو، من حيث الشكل، أكثر ديمقراطية من غيرها، لكنها لم تكن، من حيث الجوهر، سوى حيلة لتمكين قيادة الحزب من إحكام سيطرتها على قواعده، باستخدام أساليب ملتوية مشكوك حتى فى سلامتها من الناحية القانونية، وتعكس حالة من فقدان الثقة المتبادلة بين قيادة الحزب وكوادره، وغيابا تاما للانضباط الحزبى. وإلا فكيف نفسر إجبار الراغبين فى الترشح على تحرير توكيل يفوض أحمد عز بتقديم أوراقهم بنفسه ويلزمهم بعدم الترشح لاحقا كمستقلين؟ وكيف نفسر إصرار الحزب على عدم الإعلان عن قوائم مرشحيه إلا بعد إغلاق باب الترشح رسميا، أو فوز معظم الوزراء بالتزكية قبل انعقاد المجمعات الانتخابية؟. فهذه أمور جعلت المجمعات الانتخابية تبدو أقرب ما تكون إلى مصيدة نصبت خصيصا لاصطياد الراغبين فى الترشح وحبسهم داخل حظيرة الحزب إلى أن يدق الجرس، منذرا بانتهاء موعد الترشح، وتجعل مجلس الشعب المقبل يبدو أقرب ما يكون إلى المجلس المعين منه إلى المجلس المنتخب، فأين معالم الديمقراطية أو المؤسسية هنا؟

على صعيد آخر، يبدو من أحاديث جمال أنه فهم كثرة أعداد الراغبين فى الترشح من أعضاء الحزب الوطنى، وانخفاضها فى المقابل بالنسبة لأعداد الراغبين فى الترشح من المنتمين للأحزاب والقوى السياسية الأخرى، على أنها ظاهرة إيجابية تدل على قوة حزبه وضعف الأحزاب الأخرى، على الرغم من أن الواقع يقول غير ذلك تماما.

فهذه الظاهرة تكشف، على العكس، وجود خلل فى بنية النظام السياسى المصرى نفسه، وتعد دليلا قاطعا على أنه مازال فى جوهره نظاما سلطويا يقوده حزب مهيمن يمثل مصالح مرتبطة أساسا بجهاز الدولة، وامتداداً لنظام الحزب الواحد، الذى أرسته ثورة يوليو. فقد أكدت تجربة «المجمعات الانتخابية» أن الحزب الحاكم كان معنيا بإيجاد سبل للسيطرة على المرشحين المنشقين أكثر من عنايته بتطوير الممارسات الديمقراطية داخل الحزب من خلال أطر مؤسسية.

لقد مرت خمس سنوات كاملة على انطلاق أول تجربة للانتخابات الرئاسية تأكد خلالها أنها لا تختلف كثيرا، من حيث الجوهر، عن نظام الاستفتاء، الذى كان معمولا به قبل عام ٢٠٠٥. فبدلا من قيام رئيس الدولة باختيار نائب له يخلفه تلقائيا، أصبح بإمكان كل رئيس ليس فقط أن يظل فى السلطة مدى الحياة، ولكن أن يفكر فى نقل السلطة لابنه من بعده بوسائل «شبه ديمقراطية». دليلنا على ذلك أن ما يسمى «البرنامج الانتخابى الأول للرئيس» تضمن وعودا كان البعض يأمل أن تساهم فى إحداث تطوير إلى الأفضل فى بنية النظام السياسى، كالتعهد بإنهاء حالة الطوارئ واستبدالها بقانون لمكافحة الإرهاب، غير أن هذا البعد السياسى فى برنامج الرئيس لم ينفذ منه شىء على الإطلاق، وليس هذا مجرد مصادفة،

إذ يرى معظم المراقبين أن إخفاق النظام الحاكم على مدى خمس سنوات كاملة فى صياغة قانون لمكافحة الإرهاب، وإصراره على إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية المقبلة فى ظل استمرار حالة الطوارئ كشفا عن نية مبيتة لتزوير نتائجها، واعتبرا مؤشرا إضافيا على أن «مشروع توريث السلطة» لم يسحب من التداول بشكل نهائى، ومازال سيفا مصلتاً على رقبة الشعب المصرى ينتظر فرصة أفضل لتمريره بأقل الخسائر الممكنة. فحتى لو ثبت أن الرئيس مبارك سيكون مرشح الحزب فى الانتخابات المقبلة، فإنه من غير المحتمل أن تسمح سنه وظروفه الصحية باستكمال فترة ولايته السادسة، التى تنتهى فى ٢٠١٨، والأرجح أن ينسحب بعد فترة وجيزة.

ولأن الانتخابات الرئاسية ستجرى فى ظل مجلس شعب شبه معين من جانب الثنائى جمال وعز، يُعتقد أن الظروف ستكون حينئذ مواتية بشكل أكبر لتمرير مشروع التوريث. وإذا صح هذا التحليل فمعنى ذلك أن التجهيزات الحالية للانتخابات التشريعية هى المشهد، الذى يسبق المشهد الختامى فى مسرحية تتويج الوريث!.

ومن الطبيعى، فى سياق كهذا، أن نرى ظاهرة جمال مبارك وقد تحولت الآن إلى عبء على التحول الديمقراطى فى مصر. وهذا وضع طبيعى، رغم ما قد ينطوى عليه الوضع الراهن من مفارقة بين الصورة، التى كانت قد رُسمت لتبرير ظهوره على المسرح السياسى، باعتباره شابا إصلاحيا يبشر بـ«فكر جديد»، وصورته الآن كمرشح محتمل لخلافة والده فى السلطة.

 أما الآن فقد حصحص الحق وأصبح واضحا لكل ذى عينين أن عملية «الإصلاح»، التى شهدها الحزب الوطنى على مدى السنوات العشر الماضية لم تكن سوى وسيلة لتمكين «وريث» يتم إعداده للخلافة من إحكام قبضته على الحزب، ثم تمكين الحزب من إحكام قبضته على المفاصل الأساسية للدولة قبل أن يجرى الاستيلاء على السلطة بانتخابات مزورة معروفة النتائج سلفا، فمشروع التوريث والديمقراطية لا يمكن أن يلتقيا أبدا!.

  

د. حسن نافعة - المصري اليوم