إخصاء ... أم مجرد عطالة فكرية؟

يرتبط مصطلح الإخصاء من الناحية اللغوية بمعنى سلبي، حيث يستخدم للتعبير عن الفعل الذي يقضي بنزع خصيتي الدابة أو الإنسان... أي إلى الفعل الذي يُفقد الإنسان أو الدابة القدرة على الإنجاب ... بمعنى آخر هو الفعل المرتبط بالعجز عن إنتاج ذرية من صلب الفاعل ... أي العقم بدلالته الفيزيولوجية.
ويستخدم مصطلح الإخصاء بالمعنى المجازي للدلالة على توقف الإنسان عن العطاء في كافة المجالات، وخصوصاً العطاء العلمي والمعرفي وضعف الكفاءة الإبداعية... وإذا ما عممت هذه الدلالة لمصطلح الإخصاء على المجتمع، فتعني إصابته بأعظم كارثة يمكن أن تصيب أمة أو قوماً أو مجتمعاً والمتمثلة في توقف وتدهور القدرة الإبداعية والتنافسية لهذا المجتمع.
أما العطالة، فتعني أنه على الرغم من تملّك المجتمع قدرات بشرية، تمتلك المعرفة والقدرات الكامنة، إلا أنه غير قادر أو غير مقدر له إظهار هذه المعارف والقدرات التي تسمح له بالتعبير عن طاقاته الإبداعية والتنافسية.
والسؤال المطروح في حالة مجتمعنا العربي الذي يجابه أسوأ مأزق في تاريخه السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي... هل نعاني من حالة إخصاء فكري أم من مجرد عطالة فكرية؟
إن هذا الإخصاء أو العطالة الفكرية اللذين يعاني منهما المجتمع يمكن ردهما إلى عدد كبير من الأسباب، لعل أهمها:
· غياب التفكير النقدي؛ فمن دون التفكير النقدي لن يتمكن أي مجتمع من خلق فضاء سياسي أو اجتماعي أو ثقافي مولد للإبداع، الذي يعد بدوره الشرط الأساس للتنافس.
· تنامي الفكر الديني المتعصب، هذا الفكر الذي يرفض جميع أشكال الحداثة، يتشبث بالماضي لإيجاد الحلول لمشكلات الحاضر، ويرفض أي محاولة نقدية لفكره وممارسته، ويعتبر كل ما لديه صالحاً لكل زمان ومكان.
· سيطرة الاستبداد السياسي؛ هذا الاستبداد، المتمثل في انعدام حرية الرأي وغياب آليات الديمقراطية في كل مفاصل الحياة ابتداءً من السلوكات الفردية وصولاً إلى أعلى مؤسسات الدولة والمجتمع، يحاصر الحريات الفردية اللازمة لتطوير شخصية الفرد/الإنسان وإطلاق إبداعاته ... ويفضي إلى مسخ هويته، وتدمير الفضيلة والأخلاق، وخنق مكامن الإبداع ... ويحوّل المجتمع إلى كتلة هامدة يتم تجييشها عند اللزوم وتخريسها عندما تحاول الخروج عن الحدود ... حيث ينعدم الوعي ويضمر الضمير الاجتماعي العام، ويؤدي إلى حالة الحطام والخراب المجتمعي الذي تعاني منه.
· الفقر أو «حالة التفقير»: إن حالة الفقر تجبر الإنسان على الانشغال بلقمة العيش فقط... حيث تحصره في ضيق الأفق وتقلل لديه مساحات التفكير الإبداعي وتحد من استثمار قدراته. فلا يمكننا أن نتوقع من إنسان جائع ... خائف ... محبط ... مستضعف ... عاطل عن العمل ... فاقد الأمل ... لديه ما يكفيه من الهموم والمخاوف والأزمات والابتلاءات والضغوط المعيشية والذاتية أن يفكر في قضية مجتمعية أو تهم الشأن العام أو الوطني.
· الفساد والإفساد: إن تفشي الفساد الناجم عن عملية ممنهجة لإفساد الجميع تحت شعار «يجب إفساد من لم يفسد بعد، ليكون الجميع مداناً تحت الطلب»، لم تأت فقط على المال العام والاقتصاد الوطني ومقدرات المجتمع، وإنما وصلت إلى حد تغييب مؤسسات الدولة، وتتفيه فكرة القانون كأداة قياس تسود على الحاكم والمحكوم، وتسييس بل «أدلجة» النظام التربوي والتعليمي، وتفتيت ما تبقى من علاقات اجتماعية، وشراء الولاءات، وتزييف الوعي....
لقد أفضت هذه الأسباب، وأسباب كثيرة أخرى، إلى إخصاء إنساننا العربي وتحويله إلى فرد عاطل عن التفكير ومشلول الإرادة ... عاجز عن الحركة في الاتجاه الذي يرغب ... يعيش على هامش الحياة وتشغله لقمة عيشه اليومي ... خياره الوحيد الامتثال لواقعه المؤلم ... مرغماً على اجترار هزائمه الذاتية وهزائم حاكميه....
إن هذا الواقع، الذي هو مكمن الإخصاء وجذر العطالة، لا يمكن أن يستمر، بل لم يعد ممكناً له أن يستمر...
إن زمن التغييب أو الغيبوبة انتهى، وبدأ زمن التغيير الذي يبدو قد انطلق مسرعاً ... لن ينتظر أحداً ... لن يرحم أحداً ... زمن لا مكان فيه للمتقاعسين ... لا مكان فيه للخانعين ... زمن لن يسمح بالإخصاء ... ولن يقبل بالعطالة ...