إذا الأرض مدوّرة...

هيام حموي. البعث
قبل ثلاثمئة وسبعين عاماً من هذا التاريخ، في مطلع كانون الثاني من العام 1642، كاد الفيزيائي والفيلسوف الإيطالي غاليليو أن يدفع حياته ثمناً لاكتشافه فكرة مغايرة للمنطق السائد في زمنه.. هم كانوا يعتقدون أن الأرض ثابتة وأنها مركز الكون وأن الكون بأسره بما فيه من شمس وكواكب، يدور حول الأرض، وأن القمر مسطّح، وجاء هو ليقلب المفاهيم وليعلن أن كوكب الأرض ليس مركز الكون، وأن سطح القمر لا يخلو من الجبال والوديان.
حوكم عالم الفلك الفيلسوف بتهمة الخروج عن تعاليم الكتب المقدسة، لكنه تحايل على الأحكام الصادرة في حقه بأن تظاهر بالتراجع عن قناعاته، وإن بعد فوات الأوان، فالأفكار كانت قد انتشرت في فضاء الحياة وتلقفتها عقول أخرى ولم يعد بمقدور أحد أن يحدّ من تداولها.
نعم، لقد ثبت أن الأرض تدور حول الشمس، كغيرها من كواكب المجرّة، كما ثبت أنها مدوّرة وليست مسطّحة، وهذا ما سمح للأمير الصغير، بطل القصة الخالدة التي تحمل اسمه والتي أبدعها الأديب الفرنسي أنطوان دو سانتيكزوبيري، أن يقارن بين كويكبه الصغير الذي يستطيع أن يرى فيه غروب الشمس أربعاً وأربعين مرة في اليوم الواحد، بمجرد تحريك كرسيه لملاحقة المشهد الرومانسي البديع وبين كوكب الأرض الذي لا يمكن للمرء أن يشاهد فيه المنظر ذاته أكثر من مرة في اليوم، حتى ولو كان في أقصى درجات الكآبة والحزن، وكان الأمير الصغير قد شرح لمحدّثه قائلاً: “يعشق المرء غروب الشمس عندما يكون حزيناً للغاية...”.
الأرض مدوّرة، نعم، وقد انطلق أحدهم من هذه الفكرة، ربما، ليؤسس شركته التلفزيونية المسماة “تلفزيون الأرض”، والتي عملت على تثبيت كاميرات في مواقع معينة من الكوكب تظهر فيها الملامح الرئيسية لأشهر مدن العالم، مع تنويه بدرجات الحرارة المحلية، وتُباع دقائق بث إلى من يرغب من القنوات التلفزيونية، تبدو من خلالها مظاهر الحياة والحركة في هذه المدن، ويكون البث تحت مسميات مختلفة منها على سبيل المثال “العالم في هذه اللحظة”.
بصرف النظر عن ذكاء الفكرة تجارياً، فإنها لا بد ستفتح آفاقاً فلسفية واسعة للمتأمل في هذه اللحظات المسروقة من حياة الكوكب، والمكثفة في عدد محدود من الثواني قد لا تتعدى الدقيقة: هنالك معنى كبير في أن تمرّ عبر الشاشة، وعلى إيقاع موسيقي لطيف، مشاهد للعاصمة الصينية بكين وهي تصحو من نومها على يوم جديد، فيما تستعد لوس أنجلس لسهرها الصاخب وتتثاءب جنيف مللاً أمام بحيرتها الساكنة، وباريس ترقب التحرك البطيء في ازدحام شوارعها، فيما تغطّ لندن في رمادي ضبابها الكاتم لأصوات الغاضبين من اشتداد أزماتها الاقتصادية. والكل غير عابئ ولا مبالٍ بما يحدث في رقعة جغرافية كبيرة غير بعيدة، لكنها لا تعنيهم إلا بمقدار ما تبقى من ذهب أسود في أحشائها.
على شاشات أخرى، يمكن لمشاهد ملول كسول، يتنقل بالريموت كونترول بين المحطات، أن يشاهد ستين مشهداً مختلفاً في الدقيقة الواحدة يفترض أنها ملتقطة في البلد ذاته وفي اليوم ذاته، لكن لا رابط بينها سوى ما يشير إليه التعليق المرافق والتاريخ، شفهياً أو كتابياً، فهنا نرى مثلاً بلداً كجبل الغيم الأزرق، وعلى الشاشة التالية ها هو بلد استعار ملامحه من معالم “جحيم دانتي” أو جهنم الحمراء، ثم تلي مشاهد أقسى وأخرى أخف تضمن عرض كل التدرجات اللونية لقوس قزح.
على غرار مشاهد “العالم في هذه اللحظة”، تدفعنا مشاهد “البلد في هذه اللحظة” إلى الاستسلام لرغبة عارمة في رؤية مشهد غروب الشمس على الأقل أربعا وأربعين مرة، على حد قول الأمير الصغير، من وطأة الحزن، لكن الأمل يعود عندما نتذكر غاليليو وتأكيده بأن الأرض “مدوّرة”، وكما تقول الأغنية المتفائلة: “إذا الأرض مدوّرة يا حبيبي، رح نرجع نتلاقى.. يا حبيبي...”.