إذا لم نكتب الصحراء فهل نحن صحراويون؟

 

 

ربما كانت النظرية (وكلمة نظرية مبالغ فيها قليلا) الأدبية الأولى في التاريخ الأدبي العربي، تلك النظرية التي تدعي أن الشعر ليس إنجازا بشرياً، بل هو وسوسة وإملاء من الجان على الشعراء، والمحظوظ من الشعراء من كان جنيه موهوباً كجني الحطيئة أو زهير بن أبي سلمى، أما من كان جنيه متوسط الموهبة فمصيره أن يكون شاعراً متواضعاً لا يشرف قبيلته كثيراً، لكنه خير من عدمه.

هؤلاء الجان الخفيون هم مخلوقات تتصل بالسماء وبالحضارات السابقة، وبالحضارات الغريبة، ثم يحملون تأثير هذه الصلات إلى محبيهم أو المختارين للإملاء عليهم، وهؤلاء الجان أنفسهم لهم أسواق كسوق عكاظ يتطارحون فيها الشعر، ويملي بعضهم على بعض ويحسن نقادهم شعر فحولهم ويسوء نقادهم شعر ضعفائهم، ولكنهم لا يظهرون للبشر إلا في ما ندر، وأحيانا يظهرون لمن يقترب من واديهم الخفي عن البشر المسمى عبقر، الذي ستستعيره اللغة العربية لكل موهوب خارق الموهبة، أي أنه المحفوظ بعلاقته الطيبة بصديقه الشاعر الجني فصار عبقريا.

إذاً كانت نظرية الشاعر العبقري، الموحى إليه من الجني هي النظرية النقدية الأولى. ترى هل كانت هذه النظرية محاولة مبكرة لتلمس اللاوعي الإبداعي والذي يجعل مبدعا يقدم فجأة على إنجاز عمل كامل دون تحضير واع له، وحين يتساءلون عمن أوحى إليه به يقول الناقد الجاهلي إنه قرينه الجني.

على أي حال فالعرب، واللغة العربية، والحضارة العربية قد رحلت منذ زمن طويل، أي منذ الفتوح الإسلامية عن الجزيرة العربية والاختلاط بالحضارات الأخرى السابقة كالسريانية والإغريقية واللاتينية والفارسية والقبطية... إلخ. وكان لا بد لها من أن تتأثر بهذه الحضارات، فتبدع فنوناً أخرى مغايرة للشعر، ولكن الغريب أن كل المأثور الإبداعي، أو ما وصلنا منه للقرنين التاليين للفتوح الإسلامية، كان شعرا، وكان المعروف والشائع أن على الراغب في الإبداع بالعربية المضي إلى الصحراء ومعاشرة البدو والأقحاح لعشرين سنة على الأقل، حتى يستطيع الإبداع بالعربية، والإبداع بالعربية كان يعني الشعر فقط.

ولكن هذه الأمم التي دخلت في الدولة الإسلامية، والتي تغيرت لغتها من عربيات سابقة على القرشية إلى عربية قرشية، كما في سوريا بأقطارها المتعددة حاليا والعراق والجزيرة، والتي قدمت في الفترة السلوقية اللاتينية وحتى البيزنطية أسماء هامة جدا، ومنها، وهذا ما يهمني نثريا، الكاتب السوري الكلاسيكي الكبير لوقامن سميساط أو بصيغته اليونانية لوقيانوس، هذا الكاتب الذي ترك لنا أكثر من ثمانين كتابا، منها الكتاب الوحيد عن الأكروبول السوري المسمى «الربة السورية»، ومن هذه الكتب الرواية الأولى ربما عالميا والتي أسماها «قصة حقيقية» والتي يمكن افتراض أن الأم المباشرة لرسالة الغفران للمعري في الحديث عن رحلة إلى السماء وحوار مع الشعراء ومجادلتهم وتأييد بعض أقوالهم ورفض البعض الآخر. وليس هذا بعجيب، فقد كنت المسافة الجغرافية بين أنطاكية العاصمة السورية السابقة، وبين المعرة لا تتجاوز السبعين كيلومتراً، وكانت المسافة الزمنية بين القرن الميلادي الثاني، زمن لوقيانوس، وبين زمن المعري هي سبعمئة سنة، ولم يكن الزمن متسارعا كهذه الأيام، فكان التأثير والتبادل الثقافي ملحين، وهناك في سيرة المعري الإشارات الكثيرة إلى تعلّم المعري اليونانية وثقافتها في أنطاكية.

على أية حال يمكننا اعتبار رسالة الغفران نزوعا مبكرا إلى تجاوز تأثير الصحراء على الأدب العربي الإسلامي في جعل الشعر الغنائي المظهر الأكثر تجليا في الأدب العربي، وربما لولا وجود الجاحظ والتوحيدي وكتاب رسائل إخوان الصفا، لكان معظم الإنجاز الإبداع حتى ذلك الحين يندرج تحت اسم الشعر الغنائي، فلم نر شعرا ملحميا، وإن رأينا نثرا ملحميا، أعني سير الأبطال وتمجيدهم وتكبيرهم حتى يقاربوا آلهة ما قبل الأديان التوحيدية، كما في سير الملك الظاهر، وسيرة الملك سيف... إلخ.

لكن الشعر الغنائي الذي كان يحتاج إلى عشرين سنة من التعلم اللغوي والتعبيري على ايدي الصحراويين، هذا الشعر نفسه هل كان متاحا للعراقيين الشعبيين الذين لا ينحدرون من القبائل العربية الصحراوية، والمسمين بالنبط، هل كان متاحاً للشاميين من الحرفيين وصغار التجار ممن لم تتح لهم هذه الدراسة (الأكاديمية) للشعر في منابعه الصحراوية. وإذاً، هل عاشوا قرونا دون فن، دون إمتاع، دون أدب، أم أن ذاكرة الجدات أيقظت الأساطير وحكايات ما قبل الإسلام، بل والإبداع النثري للكتاب الشاميين، كما رأينا في ألف ليلة، والتي يمكن أن نرى فيها مقطعاً جيولوجيا للحضارة الإسلامية ككل، ففي هذه الرواية سنرى الشريحة السورية والشريحة المصرية الفرعونية أو القبطية، وسنرى الشريحة اليونانية والشريحة الفارسية والهندية... إلخ.

لكن ما يهمني في هذا المقال هو الشريحة السورية، والتي كان منبعها أيضا لدى لوقيانوس، والذي وضع في روايته المبكرة المتيفات الأولى للفانتازيات التي سنراها في ألف ليلة، وفي سيرة الملك سيف، وفي عجائب المخلوقات للقزويني. سنرى طائر الرخ العملاق وبيضته بحجم القبة، ولكن لوقيانوس سيسميه الأليسون. وسنرى أشجار الكرمة التي كان جذعها الأسفل جذوع كرمة، أما النصف الأعلى منها فهو لنساء خارقات الجمال اللواتي كن يتمايلن مع الريح ويغنين داعيات البحارة المنقطعين إليهن باللغة اليونانية والليدية، أما عن تأثير هذا الموتيف في الأدب العربي فسنراه في الأشجار التي تحمل ثمارا من نساء يمكن للبحار أو التاجر قطفها بقطع شعرها الواصل بينها وبين أمها الشجرة، ويمكنه مضاجعتها إن شاء، أما الذكور المعلقين على الأشجار فهم يسبحون لله صارخين كل صباح واق واق سبحان الملك الخلاق، وربما كان هذا هو السبب في تسمية بعض الجزر اليابانية باسم جزر واق الواق. وهنا موتيفات أخرى لست في وارد إيرادها الآن كانت ألف ليلة ورواية لوقيانوس هما الخيال المديني- النبطي إن شئت المقابل للغنائية الصحراوية، وكان علينا أن ننتظر حتى القرن العشرين لنرى الروائي السوري معروف الأرناؤوظ وهو يقدم لنا عددا من الروايات كانت ترى في الحجاز والصحراء البعيدين النجم الهادي والشوق إلى الإنقاذ من الاحتلال الفرنسي، فترك لنا عددا من الروايات منها «عمر بن الخطاب» و«فاطمة البتول». ولكن الأهم بين رواياته والأكثر شهرة كان رواية «سيد قريش» بأجزائها الثلاثة، والتي كانت إعلانا صريحا في طلب العون والنجدة من الصحراء الحجازية التي أنقذت سوريا فيما مضى من الاحتلال البيزنطي، وجاءت بالإسلام.

وهاهو التاريخ يجب أن يعيد نفسه، كما يرى المؤلف، وعلى الحجاز أن ينقذ الشام من الاحتلال الفرنسي -طبعا كانت هذه هي الرسالة المضمرة- لكن الروائي كان أذكى وأكثر مهارة من إعلانها.

وربما كانت هذه الرواية هي الإرهاص المبكر لما سنراه في خمسينيات وستينيات القرن العشرين من الدعوة إلى الصحراء المنقذة، حتى كان هناك ممن سمعت أنهم مضوا إلى البادية الشامية ونزلوا عند شيخ بدوي طالبين منه الحل للمشاكل السياسية، وما أكثرها في سوريا وترك واحد منهم كتاباً اسماه «الصحراء المنقذة»، ولكن ليس هذا هو همنا، فسوريا عمليا لا صحراء فيها، وأما تلك المساحات الهائلة من القفار فهي بادية صالحة للزرع لو توفر لها الماء. أما الصحراء النجدية والصحراء في الربع الخالي والصحراء الجزائرية حيث أميال إثر أميال قد تصل إلى الآلاف وأنت تخترقها بسيارتك، أو جملك في ما مضى، وليس من حولك إلا مسحوق أبيض شديد البياض المبهر بلا نهاية، فتلك هي الصحراء التي تترك الإنسان وحيدا أمام طبيعة قاسية لا ترحم، تتركه لخلوة ربما امتدت لأسابيع، وفي هذه الخلوة التي يكون فيها موزعا ما بين الخوف من انتصار الصحراء عليه والموت وما بين المناجيات الطويلة، هذه الخلوة لم تقدم ولا تقدم إلا الشعر الذي يساعد على قطع المسافات ويمكن ترداده حتى حفظه، وإلقاؤه عند الوصول حضر، أي حضر حتى لو كان بضع خيام.

أما النثر الأدبي، وما يهمني منه هو الرواية، فهو فن يحتاج إلى الحضرية، يحتاج إلى عدم الخوف من الموت عطشا وحرا، وإلى استقرار ما، وورق وقلم وأمن، لذلك كله رأينا قدرة الكتابة الروائية الصحراوية أو عن الصحراء. ومصر التي تشكل الصحراء الحقيقية الجزء الأكبر جغرافيتها، ومع ذلك فقد رأينا الرواية فيها إما أنها فلاحية، وما أكثرها، وأما رواية مدينية (حارات)، كما لدى نجيب محفوظ. وربما وحسب علمي كانت الرواية المصرية الوحيدة التي جعلت من الصحراء حقلا للكتابة كانت رواية «فساد الأمكنة» لصبري موسى والتي تتحدث عن منجم في الصحراء وعلاقات شرقية غربية في المخيم عند المنجم ولكن الجميع محاطون بالصحراء المهددة.

طبعا هناك الروائي السعودي العراقي السوري عبد الرحمن منيف، والذي ترك لنا مطولته «مدن الملح»، والتي كتبت من الذاكرة ولم تكن رواية عن الصحراء بقدر ما كانت رواية عن التحولات الاجتماعية في الجزيرة العربية، وعن دخول النفط كثروة مستحدثة أخذت تفعل فعلا في تغيير البدو والريفيين والحكام. إنه الرب الجديد، النفط. وكان اسم الرواية بحد ذاته توفيقا هائلا: مدن الملح.
على أي حال كانت المفاجأة في ظهور الكاتب الموريتاني موسى ولد ابنو، والذي قدم روايته الأولى «مدينة الرياح» فقدم لنا الصحراء القروسطية، وقبائل نقل الملح كنز الصحراء وطقوس هذا النقل، وكانت الرواية مفاجأة ومفاجئة. لكن الروائي الذي درس في فرنسا والولايات المتحدة فساعدته هذه الغربة على الخروج من صحراويته والحنين إلى ذلك العالم الذي صار ذاكرة فكتب روايته هذه.

لكن من سبق ولد ابنو كان الكاتب الليبي إبراهيم الكوني، الذي جعل من الصحراء مسرحه الوحيد وكانت رواياته في معظمها روايات لا أبطال متعددين فيها ولا حوار كبيراً، فالمونولوغ هو السيد، واستعادة الماضي وتأمل العالم الصحراوي بحيواناته النادرة، ونباتاته الأكثر ندرة، ليس هذا فحسب، فهو كثيرا ما يجعل من الحيوان وخاصته الجمل البطل الحقيقي لرواياته، وربما كانت هذه المعالجة هي ما جعلته متميزا عن أقرانه، ومتميزا في أبطاله، ومتميزا في الإفادة من مفردات الصحراء.

إبراهيم الكوني ظاهرة من الصعب تكرارها إلا لبدوي حق عاش الصحراء، وتمثل الصحراء، وأحب الصحراء، فكتب الصحراء التي من الصعب أن تسلم نفسها إلا لمن عاشها وتشممها وأحبها.