إرهاب "جبهة النصرة" يطول تمثال أبو العلاء المعري شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء

"أبو العلاء المعري شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء" ربما كان أثر هذه الجملة المنقوشة على التمثال النصفي لشاعر المعرة بليغاً على أفراد مجموعة مسلحة تنتمي لـ"جبهة النصرة" الإرهابية بحيث شوهوها برصاصهم ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بقطع رأس التمثال بحجة أن هذا الشاعر العظيم كان كافراً زنديقاً.

ذاك التمثال النصفي بني اللون القابع في المركز الثقافي بمعرة النعمان الذي حول الآن إلى مكتبة يضم بهوها الخارجي ضريح المعري أثار الاعتداء عليه الكثير من ردود الفعل فالدكتور علي القيم معاون وزيرة الثقافة أوضح أن المعري شخصية عالمية بامتياز فمنه أخذ دانتي أفكار الكوميديا الإلهية كما استمد منه العالم في العصور الوسطى أصول الفلسفة والفكر والتصوف فهو فيلسوف الشعر والشعراء.

ولفت القيم إلى أن الإنسانية معجبة بشخصية المعري بمختلف تفرعاتها فهو سوري بامتياز ومن قرأ كتبه مثل "سقط الزند" و"رسالة الغفران" يدرك أنه كان مؤمناً ويعرف الله مبيناً أن تحطيم تمثاله هو إساءة لعطاءات هذا الإنسان المجدد الذي سبق عصره بمئات الأعوام.

يأتي هذا الاعتداء دلالة على جهل "جبهة النصرة" وانعكاساً لفكرها وعدائها للعلم والعلماء والمفكرين فرغم حجم الخراب الذي سببوه في سورية واستهدافهم للكوادر العلمية والفكرية والأدبية والإعلامية في كافة محافظات القطر إلا أن ظلامية ارهابييها امتدت إلى تمثال "رهين المحبسين" وحول ذلك قال الدكتور نزار بني المرجة عضو المكتب التنفيذي في اتحاد الكتاب العرب: "كنت قد تشرفت بزيارة المركز الثقافي العربي في معرة النعمان لمرتين وقرأت الفاتحة على ضريح الشاعر المعري وإن هذا الاعتداء على رمز من رموزنا الفكرية يذكرنا بما كانت تقوم به طالبان من تحطيم للتراث التاريخي وهذه المسألة بعيدة عن كل ما له علاقة بموضوع الإيمان والإسلام وتدل على نوع الثقافة التي يبشر بها هؤلاء المتشددون والتي تستهدف تاريخنا وتراثنا وأعلامنا وما يريدونه من مستقبل لأبنائنا وأحفادنا عدا عما نراه منهم من قتل وتشويه لكل ما هو حضاري وتاريخي وجميل في بلادنا".

والمعري هو أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد بن سليمان المعري التنوخي.. شاعر ومؤلف عربي كبير لقب نفسه بـ"رهين المحبسين" المحبس الأول فقد البصر والثاني ملازمته داره واعتزاله الناس. دفن المعري في معرة النعمان ثم أقيم حول ضريحه مركزاً ثقافياً يرتاده المثقفون والشعراء والأدباء من كافة أنحاء الأرض ثم أقام اتحاد الكتاب العرب ووزارة الثقافة مهرجاناً أدبياً أصبح تقليداً سنوياً استقطب على أعوام متتالية عدداً كبيراً من أدباء سورية والوطن العربي.

بدأ أبو العلاء في تلقي العلم على يد أبيه وهو صغير وأول ما بدأ به علوم اللسان والدين وبدأ يقرض الشعر وله إحدى عشرة سنة ثم ارتحل إلى حلب ليسمع اللغة والآداب من علمائها تلاميذ ابن خالويه وتجول في عدد من المدن العربية كبغداد وطرابلس يطلب علومها وآدابها وكان قوي الذاكرة يحفظ من المرة الأولى وفي فترة صباه قرر الانقطاع عن الدنيا ومفارقة لذائذها فكان يصوم النهار ويقيم الليل ولا يأكل اللحوم والبيض والألبان بل يكتفي بما يخرج من الأرض من بقل وفاكهة ويكتفي من الثياب بما يستره من خشنها ومن الفراش بحصير من بردي أو لباد والتزم بقرار عزلته فلم يخرج من داره تسعاً وأربعين سنة إلا مرة واحدة مكرهاً.

وكان المعري رغم عزلته ذا صلة حسنة بالناس وكان مع فقره كريماً ذا مروءة يعين طلاب الحاجات وينفق على من يقصده من الطلاب يهدي ويهدى إليه ويكرم زائريه ومن مروءته وكرمه أنه لم يقبل من تلميذه الخطيب التبريزي ذهباً كان قد دفعه إليه ثمناً لإقامته عنده لم يرده إليه في حينه حتى لا يؤذي نفسه ويوقعه في مشقة الحرج ولكنه احتفظ له به حتى تجهز قافلاً فودعه ورد إليه ما دفع.

وكان رقيق القلب رحيماً عطوفاً على الضعفاء حتى شملت رقة قلبه الحيوان فلا يذبح ولا يروع بولده وبيضه وكان وفياً لأصدقائه وأهله وتفيض رسائله إلى أهل بغداد والمعرة وإلى أخواله بهذا الوفاء ومن أهم خصاله الحياء الذي يكلفه ضروباً من المشقة والأذى.

من أشهر مؤلفاته النثرية رسالة الغفران التي أملاها رداً على رسالة الأديب الحلبي علي بن منصور بن القارح ومن مؤلفاته أيضاً كتاب "تضمين الرأي" وهو عظات وعبر وحث على تقوى الله يختم كل فصل منها بآية و"تاج الحرة" وهو خاص بوعظ النساء ومقداره أربعمئة كراسة و"سجع الحمائم" وهو كتاب في العظة والحث على الزهد أيضاً و"رسالة الملائكة" وغيرها كثير.

أما ما يتعلق بشعر المعري فهناك من رأى فيه شاعراً فيلسوفاً لم يعهد المسلمون في قديمهم وحديثهم ومنهم من صنفه كشاعر كبير دون أن يكون له مذهب فلسفي بل اتجاهات تخل بالمنهج الفلسفي إخلالاً واضحاً خاصة أنه هو رجل وجدان دقيق الحس عميق الإدراك صادق التعبير جريء التعرض للمعاني والخواطر بينما جعله فريق ثالث مع سقراط والقديس أوغسطين والغزالي وتوما الأكويني وشوبنهاور في طبقة واحدة فضلاً عمن عده فيلسوفا له نظراته في الفلسفة أو مجددا لأصول الفلسفة أو هو الفيلسوف الأكبر لكن أكثر النقاد يرونه شاعرا إنسانيا متأملاً في المحل الأرفع بين شعراء العربية له مقام فريد لا من حيث أسلوبه وفنه فحسب لكن من حيث روحه ونظرته إلى الحياة والأحياء من حوله.