إعادة رسم الخرائط

انطلقت مظاهرة يوم الجمعة أمام جامع عمرو بن العاص، عقب صلاة الجمعة، طالب المتظاهرون فيها بعزل البابا شنودة والكشف أو «تحرير» كاميليا شحاتة، وطبقاً لما نشر بجريدة «الشروق» صباح السبت، هذه هي المظاهرة رقم ١٢ ويقودها بعض السلفيين، نعرف أنه كانت هناك مظاهرة من هذا النوع أمام مسجد النور وثانية أمام جامع الفتح، وثالثة في الإسكندرية وهكذا.. لكن اختيار جامع عمرو له دلالته، هذه المنطقة سياحية بامتياز، وكنت أطلقت عليها قبل سنوات في تحقيق بـ«المصور» منطقة «مجمع الأديان» وقد أخذه بعد ذلك د. ممدوح البلتاجي حين كان وزيراً للسياحة شعاراً لحملة من حملاته السياحية، ففيها حصن بابليون وفيها كنيسة «أبي سرجة» التي اختفت فيها السيدة العذراء وطفلها السيد المسيح فترة أثناء رحلة العائلة المقدسة إلى مصر، وفيها كذلك معبد بن عزرا و«عين موسى» أي الموقع الذي عثر فيه رجال فرعون على الصندوق الذي كان فيه سيدنا موسى وهو طفل، فقد كان النيل يمر بهذه المنطقة.. ومن ثم فاختيار هذه المنطقة لظاهرة طائفية أمر يتصادم مع روح المكان وتاريخه. مثل هذه المظاهرات، وإن كان عدد المشاركين فيها محدوداً، أمر يثير القلق، لأنها تزيد حالة الاحتقان الطائفي وتؤكد أن هناك من يسعون نحو تضخيم هذا الاحتقان، لأن تأمل مطالب المتظاهرين يثير الاستفزاز، لقد دهشت أن الشيخ حافظ سلامة الذي لعب دوراً بارزاً في المقاومة الشعبية بالسويس أثناء حرب أكتوبر ١٩٧٣، يكون على رأس مظاهرة من هذا النوع، وبدلاً من أنه كان يطالب بتحرير السويس وسيناء، إذا به يطالب الآن، وللمصادفة المحزنة بتحرير «كاميليا».. ما هذا التواضع والتراجع في المطالب والأدوار وهل أصبح الوطن كله بحجم «كاميليا»؟!، وكيف تقوم مظاهرات هدفها التدخل في الحياة الشخصية لسيدة، وليس من حق أحد أن يتدخل في الحياة الخاصة لفرد ومعتقده الديني، ما نعرفه أنه كاميليا مواطنة مسيحية اختلفت مع زوجها، ما شأن الآخرين بذلك؟.. ولو اختارت هذه السيدة أن تصبح مسلمة أو حتى بلا دين أو إذا قررت واختارت أن تبقى كمسيحية، فهذا شأنها وحدها، لا يجوز أن يتدخل فيه أحد، والمتوقع أن تقوم المظاهرات حفاظاً على حريات الأفراد، لا على التدخل في شؤونهم الخاصة. مسكينة هذه السيدة - التي حوّل الآخرون، السلفيون تحديداً- أدق تفاصيل حياتها إلى شأن طائفي عام.. أما التهجم على شخص قداسة البابا شنودة والمطالبة بعزله، فهو أيضاً أمر ينافي اللياقة، فضلاً عن أنه تدخل في شأن الأقباط، فهم الذين يختارون البطريرك، ورئيس الدولة يقر هذا الاختيار، والمتظاهرون يعلمون أن هذا المطلب لن يتحقق وليس من حقهم هذا المطلب، لأننا في دولة تحكمها القوانين لا هتافات المتظاهرين. لست من أنصار نظرية المؤامرة، لكن ما نلاحظه أن المنطقة يعاد رسم خرائطها جغرافياً وسياسياً وفق المنظور الطائفي والمذهبي، من إسرائيل إلى لبنان وغزة والسودان واليمن فضلاً عن العراق، ويبدو أن هذه الرياح بدأت تهب علينا، ونرى نفخاً متزايداً في الشأن الطائفي، واتساع نطاق تيارات وجماعات يسعدها ذلك، عندنا يتسع نطاق السلفيين ويزداد نشاط «الوهابية المصرية»، وهؤلاء لا يحتملون ولا يقبلون المسلمين المعتدلين، أو الإسلام الوسطي الذي عرفت به مصر، فما بالنا بغير المسلمين؟ وفي كل المجتمعات يكون التوقع بأن يأتي الاحتجاج والغضب من الأقليات، أما عندنا فيأتي الغضب من الأغلبية، أو بعض أطرافها، وهذا يعني أن هناك قلقاً أو رغبة في إزاحة الأقلية نهائياً، ولا يجب أن يكون هذا أو ذاك، ولابد أن تتراجع عناصر الإثارة وأن تتم تهدئة هذا الملف، لأن مشاكل المجتمع المصري أكبر من هذا العبث.
التعدد والتنوع غنى وثراء والأحادية الثقافية والاجتماعية تعنى الشمولية والفقر أو الجدب، حدث ذلك عبر مراحل التاريخ المصري، سواء فى العصر الفرعوني أو الروماني أو العربي، عرفنا فترات تصور فيها فريق من السياسيين ومن القوى الاجتماعية أنه يمكن أن يطيح بالآخرين ويلغي وجودهم، فكانت النتيجة انهيار الجميع، وحين نرى اليوم من يتصور أنه صاحب هذا الوطن وغيره ضيف عليه أو من يتصور أنه سيخسف الأرض بالآخر بسبب قلة عدد «الآخر»، فهذا هو الوهم وأكاد أقول «الخطل» بعينه.. لذا لا أفهم التوقف في الفترة الأخيرة عند نسبة أعداد الأقباط في مصر، وهل هى ٦٪ أو ١٢٪ أو حتى ١٨٪، فالحقوق لا تقدر للإنسان وفق الكم، القضية أن للإنسان في المجتمع حقوقاً، حتى لو كان فردا بذاته.
حلمي النمنم - المصري اليوم