إن لم يكن الآن , فمتى ؟

 

هل الوقت مناسب الان للسعي وراء اتفاقية سلام؟ يتم الحوار حول هذا السؤال بصخبٍ في إسرائيل، ليس فقط من قبل الأكاديميين والعلماء، بل من قبل رئيس إسرائيل نفسه ورئيس الوزراء. ففي زيارة له لمدريد في الآونة الأخيرة قال الرئيس شمعون بيريس:"الآن هو بالضبط الوقت لاستئناف المفاوضات بيننا وبين الفلسطينيين .... فهذه العاصفة (من الاحتجاجات في المنطقة) فرصة أيضاً للسلام".

وبعد أيام في ملاحظات له أمام الكنيست قال نتنياهو بامتعاض عند التفكير بالتفاوض خلال فترة الإضطرابات هذه: "قد يكون هناك جدال حول شريك سلام اليوم، غير أن هناك شكوكا بخصوص وجود شريك في الغد" وأردف يقول: "لا نعلم ما سيحدث لغربنا، ولا نعلم ما سيحدث لشرقنا، ومن بإمكانه أن يجزم إذا كانت الدولة الفلسطينية – في خضمّ كل ذلك – ستستمرّ" إذن أية نظرة هي الصحيحة؟ هل تقدم الأزمة الإقليمية الحالية فرصة للسلام في الشرق الأوسط؟ أم هل يتطلب المجهول الإقليمي وضع جهود السّلام في الإنتظار؟

إذا كان هناك وقت لدفع اتفاقية سلام شاملة في الشرق الأوسط، إلى الأمام، فقد كان هذا بداية عام 2009 على ما يبدو انطلاقة لهذه الفترة. لقد دخل البيت الأبيض رئيس جديد للولايات المتحدة الأمريكية أخذ على نفسه من اليوم الأول مساعدة الأطراف على الوصول إلى حلّ الدولتين. بالنسبة لإسرائيل فقد استعادت قوة ردعها ضد إطلاق الصواريخ من قطاع غزة بعد عملية "الرصاص المصبوب"، وقد تمّ أيضاً ردع حزب الله، وهذه حقيقة بانت من خلال سكوته خلال الحملة الإسرائيلية في غزة.

وقد كان الرئيس محمود عباس آنذاك قريباً جداً من إبرام اتفاقية سلام مع رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت قبل بضعة أشهرٍ فقط من ذلك، غير أنه كان متردداً للقيام بذلك لعلمه بأنّ أولمرت سيقدّم للقضاء ويضطر للتخلي عن منصبه. وفي أثناء ذلك أخذ التعاون الأمني ما بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية أبعاداً جديدة، الأمر الذي انعكس على النمو السريع لاقتصاد الضفة الغربية. واستمرّت جامعة الدول العربية في الوقوف عند التزامها لتطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل اتفاقية يتم التفاوض حولها بنجاح للصراع العربي – الإسرائيلي.

وخلال هذه الفترة أيضاً تشكلت حكومة إسرائيلية جديدة بائتلاف قوي. وفي صيف العام نفسه قام الرئيس باراك أوباما بانفتاح تاريخي على العالم العربي من خلال خطابه في القاهرة. وقام أيضاً رئيس الوزراء في إسرائيل، بالرّغم من أنه من حزب الليكود اليميني، بنيامين نتنياهو بقبول مبادىء حلّ الدولتين للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني في خطاب له في جامعة بار- إيلان. وبدء عام 2009 بهذه المؤشرات الإيجابية العديدة بأنّه سيقدّم فرصة حقيقية للتوصل لسلام إقليمي مرجوّ منذ فترة طويلة، سلام يضمن بشكلٍ نهائي استقلال وأمن وازدهار ليس للإسرائيليين فحسب، بل وللفلسطينيين على حدّ سواء.

وفي النهاية، وللأسف، فشلت جميع الأطراف في انتهاز هذه الفرصة. الأسباب عديدة وتمّ تحليلها مراراً وتكراراً خلال العامين الماضيين من قبل المتخصصين حتى الغثيان. ومنذ ذلك الحين بدأت آمال السلام تتراجع بصورة جسيمة، فقد تلاشت الآمال العالية التي رافقت الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض. برز حزب الله ثانية كقوة سياسية رئيسيّة خلف الحكومة في لبنان مشكّلاً من جديد تهديداً خطيراً لإسرائيل من الشمال. وبقيت حماس في نفس الوقت محصّنة بإحكام قبضتها على قطاع غزة وقد ارتفعت معنوياتها بالثورة المصرية في الجنوب. وأما الإسرائيليون والفلسطينيون فهؤلاء يرفضون التزحزح عن مواقفهم الحالية ويتهمون بعضهم بعضاً بعدم الجدارة لشراكة السلام. وإيران مستمرة إبّان ذلك في سعيها لامتلاك أسلحة نووية وإسرائيل تواجه هجوماً من حملة دولية ذات شأن لنزع الشرعية عنها، الأمر الذي يزيد من عزلة الدولة اليهودية ويجعلها أكثر عدوانية من أي وقت مضى. ويبدو إبّان ذلك أيضا ً بأن مستقبل مبادرة السلام العربية قد اكتنفه الغموض مثل وضع الأنظمة العربية في جميع أنحاء المنطقة لمرور الشرق الأوسط الآن في موجة تاريخية غير مسبوقة من الاضطرابات والثورات والإصلاحات. لو كانت المقوّمات ظاهرة على السطح لاختراق ٍ سياسي في عام 2009، فقد تبدو "الوصفة " اليوم على أنّ المنطقة مقبلة على كارثة، أم لا ؟ هناك مدرستان رئيسيتان للفكر فيما يتعلّق ب "نافذة الفرصة" لسلام ٍ في الشرق الأوسط:

المدرسة الأولى تقول بأنه ليس هناك وقت مثالي أبدا ً للسعي وراء السلام – وأنا أنتمي من كلّ قلبي لهذه المدرسة – ولذا يجب السعي بصورة متواصلة وراء فرص السّلام، بل وحتى خلق هذه الفرص إن لم توجد. أضف إلى ذلك، قد تقود بالفعل أوقات الأزمات لفرص ٍ للسلام. وقد شُكّلت في الغالب وجهة النظر هذه على أساس الإعتقاد بأنه إذا لم تتوصّل إسرائيل في القريب العاجل لحلّ الدولتين، فقد تواجه مستقبلا ً عواقبه وخيمة. ورئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت من بين أنصار وجهة النظر هذه، وقد عبّر عن ذلك يوما ً بقوله للصحفيين: " إذا جاء اليوم الذي ينهار فيه حلّ الدولتين وأخذنا نواجه قتالا ً شبيه بما حدث في جنوب إفريقيا من أجل حقوق ٍ متساوية في التصويت (أيضا ً بالنسبة للفلسطينيين في المناطق)، حينها – وحالما يبدأ ذلك – تنتهي دولة إسرائيل". هذا يعني بأن التحديات طويلة الأمد التي ستواجه إسرائيل إذا لم تتوصّل لسلام ٍ الآن قد تكون على الأرجح أسوأ بكثير من المخاطر القصيرة الأمد التي تتعرّض لها الدولة اليهوديّة بسعيها الآن وراء اتفاقية سلام.

وعكس ذلك، تفترض النظرة الأخرى بأنه بدون التأكيدات اللازمة – أكانت الأمن أم ضمانات سياسيّة أواقتصاديّة أواجتماعية – يصبح السّعي وراء السّلام خطراً غير ضروريّا ً وإلهاءً عن ضمان الأهداف الوطنيّة قصيرة الأمد. هذه النظرة تخلق الحجج التي نسمعها بشكل ٍ عام والتي مفادها بأنّه لا يمكن السعي وراء السلام لغاية اتخاذ جيران إسرائيل إجراءات معيّنة لتحسين الأجواء الإقليمية كي تكون عاملا ً مساعدا ً لإنجاح مباحثات السّلام. وخلافا ً للنظرة الأولى تخشى هذه النظرة مخاطر الوقت الحاضر أكثر من مخاطر المستقبل، ولذا تجد أنصارها مترددين في تغيير الوضع الراهن الذي يبدو مُسيطرا ً عليه، حتّى وإن كان ذلك بصورة غير مثاليّة، وبالأخصّ لأن أية اتفاقية سلام ستتطلّب من إسرائيل القيام بتنازلات جوهريّة.

ويمكن البتّ بسهولة في الوقت الحاضر بين هذين الرأيين بطرح السؤال الإضافي الآتي: " هل إسرائيل اليوم أفضل حالا ً مما كانت عليه قبل عامين ؟". الجواب واضح تماما ً: لا. فإسرائيل اليوم معزولة أكثر في المجتمع الدولي، وهي مهددة أيضا ً من جميع الجوانب لربّما أكثر من أيّ وقت ٍ مضى.

ولكن، ماذا بإمكان إسرائيل، أو لربّما ماذا عليها أن تفعل في خضمّ هذه الإضطرابات الإقليميّة التي لم يسبق لها مثيل، وفي ظلّ هذا الغموض الرهيب الذي يكتنف المنطقة ؟ قد يُنظر الآن لأي تنازل إسرائيلي مهمّ على أنه علامة ضعف. فالأنظمة المطلقة في جميع أرجاء الشرق الأوسط دأبت الآن على رشو شعوبها بالأموال وتجري بعض الإصلاحات في محاولة ٍ فاضحة لتفادي الثورات. فأي تحرّك ملموس من قبل إسرائيل سيُنظر اليه بنفس الطريقة على أنه إجراء يائس لتجنّب العاصفة الحاليّة. ومهما يكن الأمر، إسرائيل لا تستطيع أن تقف مكتوفة الأيدي لا تفعل شيئا ً وتسمح حتّى بمزيد من تدهور وضعها. ستقوم الحكومات الجديدة المشكّلة في مصر وفي بلدان عربية أخرى في نهاية المطاف بمعالجة السّخط الشعبي بتوجيه أنظار شعوبها – كما فعلت في الماضي – لقضايا سياسيّة خارجيّة. وستصبح هذه الحكومات أكثر تقبّلا ً للمطالب الشعبيّة لمواجهة احتلال إسرائيل المتواصل للفلسطينيين بالعنف. وإبان ذلك فقد أصبح لقادة البلدان التي كان من الضروري على إسرائيل صنع سلام ٍ معها وهي: لبنان وسوريا والفلسطينيين مناعة ً قويّة ضد الثورات التي تجتاح المنطقة.

بدلا ً من قيام إسرائيل في الوقت الحاضر بتنازلات جوهريّة تحت الضغط، عليها على الأقل إرسال إشارات – منسجمة مع خطاب رئيس الوزراء في جامعة بار ايلان – مفادها بأن إسرائيل ملتزمة: 1) بحفظ السّلام مع مصر وترحّب بمواصلتها بدور الوساطة مع حماس، 2) مستعدة للتفاوض مع الفلسطينيين على الحدود المستقبليّة و3) مستعدة لمحاورة الجامعة العربيّة بشكلها الجديد حول مبادرتها السلميّة. قد تمثّل هذه الخطوات الثلاث تغييرا ً في اللهجة والمضمون، ولكن من منطلق القوّة.

تعتبر معاهدة السّلام المصريّة – الإسرائيليّة قضية حيويّة لحسابات إسرائيل الأمنيّة. حوالي (70 %) من المصريين فتحوا أعينهم على الحياة بعد توقيع اتفاقية السّلام هذه، وعاشوا منذ ذلك الحين في أجواء سلام ٍ مع إسرائيل. غير أنّه سيتم حتما ً الضغط الآن على الحكومة المصريّة الجديدة لتخفيض درجة علاقاتها مع إسرائيل إن لم يكن هناك تحرّك تجاه سلام ٍ إسرائيلي – فلسطيني. ومن الضروري ألاّ تقدّم إسرائيل للمصريين ذريعة ً تبرّر تقليص الروابط الإسرائيلية – المصريّة.

لقد رفض الفلسطينيون التفاوض مع إسرائيل بالرّغم من ادعاء الأخيرة بأنها مستعدة للتفاوض الآن بدون شروط. السبب واضح، وهو أنّ قلّة من الفلسطينيين وفي المجتمع الدولي من يعتقد بأن إسرائيل صادقة فعلا ً في نداءاتها للتفاوض. علاوة ً على ذلك، فقد أصرّت إسرائيل بأن تبدأ أية مفاوضات ٍ بالقضايا الأمنية. فبإظهار استعدادها لبدء المفاوضات حول الحدود – وهذه قضيّة رئيسية تقلق مضاجع الفلسطينيين – قد تعطي إسرائيل إشارة ً بأنها جادّة فعلا ً للعودة إلى مفاوضات السّلام، وبذلك تمارس ضغطا ً على الفلسطينيين للتجاوب معها. وفي حين أن موجة الإضطرابات والإحتجاجات الحاليّة في المنطقة تخلق مستقبلا ً غير مضمونا ً، غير أنّ عدم قيام إسرائيل من الناحية الأخرى بأي تغيير في الوضع الراهن سيعزل إسرائيل أكثر من أي وقت ٍ مضى . فالفلسطينيون يخطّطون لشهر أيلول القادم لاستصدار قرار من الجمعيّة العمومية للأمم المتحدة بإعلان الدولة الفلسطينيّة بالتزامن مع انجاز خطة رئيس الوزراء سلام فيّاض لبناء مؤسسات الدولة. ولتجنّب مثل هذا الإحتمال، على إسرائيل أن تبيّن الجديّة في دعوتها لمفاوضات السّلام. وبقيامها بذلك "تحرّر" الفلسطينيين والمجتمع الدولي من خطأ الإعتقاد بأنها تعارض تماما ً السّلام.

إذا اجتمعت القمّة العربيّة كما هو مقرر في بغداد يوم 29 شهر آذار الحالي، فإنها ستعالج تحديّات غير مسبوقة. على أيّة حال، يبدو في غبار هذه الإضطرابات الإقليميّة بأن الثقة العربية موجودة وبتألّق. قد يبدو المستقبل مكسوّا ً بالضباب، غير أنّ شعوب العالم العربي في الوقت الحاضر تبدو أكثر أملا ً وتفاؤلا. على إسرائيل أن تستفيد من هذه اللحظة بتقديم قضية قديمة جديدة للزعماء العرب في مؤتمر قمّتهم ليتأمّلوا فيها في بغداد، وهي ايماءة اسرائيلية تثني على مبادرة السّلام العربيّة وتعلن بأن إسرائيل مستعدّة لمناقشة محتوياتها مع ممثلّين عرب كأساس لسلام ٍ إقليمي شامل. فإذا لم تمسك إسرائيل الآن بمبادرة السّلام العربيّة ستزداد آمال السّلام تدهورا ً وقد تضيع منها هذه الفرصة التاريخيّة.

ولذا على إسرائيل أن ترسل رسالة ً في منتهى الوضوح تقول فيها بأنها ترحّب بالإتجاهات الأكثر شفافيّة ومسئولية وديمقراطيّة ً في المنطقة وبأنها مستعدة لمفاوضة الدول العربية للتوصّل لاتفاقية سلام ٍ تاريخيّة. فإذا تقدّم نتنياهو على أية حال – حسب التقارير الإخباريّة – بخطته الخاصّة للسّلام، يجب أن تكون هذه الخطّة فعلا ً ملزمة ً بحيث يأخذها الفلسطينيّون بجديّة. وستفشل بالتأكيد أية خطوات ٍ أحاديّة الجانب يتخذها نتنياهو للتقدّم بالعملية السلميّة وتأتي بنتائج عكسيّة مثل الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في عام 2000 في عهد رئيس الوزراء ايهود باراك، والإنسحاب من غزة في عام 2005 في عهد أرئيل شارون. لن يدوم سلام إسرائيلي – عربي إلاّ باتفاقيّة سلام يتمّ التفاوض عليها.

وعند "الإبحار" في هذه الأجواء الإقليميّة الحاليّة، على القادة الإسرائيليين اليوم أن يتصرّفوا بمقتضى القول المأثور للحاخام هيليل:" إذا لم أكن أنا لنفسي، من إذن سيكون لي، وإن كنت أنا لنفسي، فمن أكون ؟ وإن لم يكن ذلك الآن، فمتى" ؟. لن يكون هناك وقت مثاليّ لصنع سلام ٍ مع الأعداء. ولن يكون هناك على أية حال وقت سيّىء لاتخاذ خطوات ٍ نحو سلام ٍ يضمن أمن إسرائيل كدولة يهوديّة ديمقراطيّة تعيش جنبا ً إلى جنب بسلام ٍ مع جيرانها. والآن هو الوقت لذلك !

 

ألون بن مائير - القدس