إياكم وإدمان ميدان التحرير

 

أصبح ميدان التحرير بوسط القاهرة أشهر ميدان في العالم، منذ ثورة اللوتس في يناير ٢٠١١، ولم يكن ذلك الميدان معروفاً إلا للمصريين والعرب، وفقط من الأجانب أولئك الذين درسوا أو عملوا في مصر.

ولكن دراما الثورة، وما تخلّلتها من صِدامات، وخاصة ما أصبح يُعرف بـ«موقعة الجمل»، جعل من ميدان التحرير معلماً تاريخياً، ومزاراً سياحياً يتنافس مع أهرامات الجيزة، ومعبد الكرنك فى الأقصر، والسد العالى فى أسوان، ومكتبة الإسكندرية.

إن لكل ثورة آباءً مهّدوا لها، يُسميهم عُلماء الاجتماع، أصحاب القلم (Men of Words)، ومنظمين، هم أصحاب الفعل (Men of Action)، ولكن لكل ثورة أيضاً محل ميلاد، وميدان التحرير هو محل ميلاد ثورة اللوتس، كما أن ٢٥ يناير هو يوم ميلادها.

وبينما لا يتنازع أحد ممن يُهمهم الأمر على تاريخ الميلاد، أصبح محل الميلاد، وهو ميدان التحرير، محلاً مُختاراً لكل أصحاب القضايا والمظالم.. وأصبح بهذا المعنى أشبه بمقام الإمام الشافعى، الذى يتوجه إليه أصحاب الحاجات من المصريين المُتدينين، ومثل «حائط المبكى» فى القدس عند اليهود المُتدينين.

ولكن فى تراث وأدبيات الحركات الاجتماعية الاحتجاجية، فقد أصبح ميدان التحرير فى الوجدان المصرى أقرب إلى «ركن المُتحدثين فى حديقة» هايد بارك (Hyde Park) بالعاصمة البريطانية لندن، ومُنتزه لنكولن بالعاصمة الأمريكية واشنطن.

ولأن وسائل الإعلام العالمية ركّزت عليه كفضاء للثورة لمدة ثمانية عشر يوماً مُتتالية، فقد سمع اسمه وشاهد معالمه ما لا يقل عن ثلاثة مليارات من البشر، هم نصف سكان العالم، من الشباب والكهول والشيوخ.

وقد أصبح كل كبار الزوّار الأجانب لمصر يتوقفون فى التحرير، ولو لدقائق، وقد سمعت بعضهم يُباهى أنه لم يكن سائحاً تقليدياً يزور فقط الأهرام وأبوالهول، بل وميدان التحرير.

وهكذا أصبح «الميدان» رمزاً مُركباً لملايين البشر فى مصر وخارجها. وأصبح الثوار والمُتظاهرون فى كل أنحاء العالم- من وسكانسن الأمريكية، إلى لندن البريطانية، إلى شنغهاى الصينية، إلى مدريد الإسبانية، يُحاكون ثوّار ميدان التحرير، وهم لا يخجلون بل يتباهون، بذلك. وكانت العادة إلى وقت قريب هو أن تُقلد بُلدان العالم الثالث- ومنها مصر- بُلدان العالم الأول.

أما فى حالة ميدان التحرير، فقد انعكست الآية. فها هى جماهير المُحتجين فى العالم الأول تحاكى الجماهير المصرية التى صمدت فى ميدان التحرير بطريقة سلمية، حتى أسقطت نظاماً مُستبداً، ومُتمرساً بكل فنون المُناورة والبطش.

وهكذا، أصبح ميدان التحرير بمثابة كعبة، يقصدها كل أصحاب المظالم، وكل من كانت أصواتهم حبيسة صدورهم لسنوات طويلة.

ومن ذلك ما فعله بعض «الجهاديين»، والذين قضوا فى السجون رُبع قرن أو أكثر، فبمجرد الإفراج عنهم، صرّح أحد أمرائهم، بأن جماعته ستنظم «مليونية» خاصة بهم فى التحرير، وصرّح «آخر» بأنهم سيُطهرون الميدان من المجموعات الشبابية التى فجّرت ثورة اللوتس فى ٢٥ يناير!

 وهى نفسها المجموعات التى بسببها، قامت الثورة، وبفضل إلحاحها أفرج عن هذا الأمير الغاضب، الذى دخل السجن شاباً وخرج منه «كهلاً»، ولكن رغم كهولته، فما زال غاضباً، ويُريد أن يُنفث جامّ غضبه فى ميدان التحرير، لا ضد من أطالوا محبسه عدة سنوات فوق العقوبة الأصلية (٢٥ سنة)، ولكن ضد الشباب المدنى الحُر الذين كان صمودهم السلمى سبباً فى الإفراج عن ذلك الكهل الإسلامى الغاضب. ولا يوجد أصدق ما ينطبق عليه مقولة: «اتقِ شر من أحسنت إليه»!

وعودة إلى ميدان التحرير، فيبدو أنه قد أصبح ضمن أشياء أخرى حالة «إدمان».

وأذكر أن أحد الثائرات ممن أدمن التحرير، وكانت عائدة من رحلة أوروبية، على نفس الطائرة منذ عدة شهور، وبمُجرد إنهاء إجراءات الوصول والخروج من المطار، تركت حقائبها مع بعض أقاربها الذين كانوا فى استقبالها، وانطلقت وحدها فى تاكسى إلى ميدان التحرير، كانت هذه الواقعة بعد سقوط مُبارك بعدة أسابيع.

ولكن الشباب الثائر ظل فى خيامه بميدان التحرير، إلى أن تتحقق بقية مطالبه، وكلما تحقق مطلب منها، يظهر مطلب إضافى آخر. وكان شوق تلك الثائرة الشابة إلى العودة إلى ميدان التحرير، بعد غياب عدة أيام، فى رحلتها الأوروبية، هو الذى أوحى لى بعنوان هذا المقال.

فكما يقول لنا الأطباء النفسيون، فإن الإدمان هو «عادة» أو «مُمارسة» تعاطى سلوك مُعين، يُجلب لصاحبه إشباعاً داخلياً، حقيقياً أو متوهماً، فإذا حُرم من هذه المُمارسة فإنه يشعر بألم نفسى، قد يتطور إلى ألم عضوى جسمانى.

ويبدو لى أن عدة آلاف ممن بدأوا ثورة يناير، قد تطور «الفعل الاحتجاجى» لدى بعضهم من «وسيلة» لتحقيق هدف مُعين، إلى جزء من الهدف. أى أن الاحتجاج فى التحرير أصبح «الوسيلة» و«الغاية» معاً. وضمن ذلك أن التحرير أصبح أيضاً فضاءً للتواصل والمودة الإنسانية، وبدأ يشعر فيه آلاف بإنسانيتهم، وبمصريتهم، ولأول مرة «بقوتهم».

وكان التعبير عن حزمة المشاعر هذه، ومعاً، وعلانية، وفى ميدان التحرير، شيئاً جديداً على آلاف المصريين، الذين عزلهم نظام مُبارك عن بعضهم البعض، فقد بثت مؤسساته الأمنية الخوف والشك وعدم الثقة فى الآخرين وهى الحالة التى يصفها عُلماء الاجتماع بـ«الأنامالية».. فكل فى جزيرته أو شرنقته المُنعزلة، لا يكترث بغيره أو من حوله، ولسان حاله يقول، «وأنا مالى»! والطريف هو أن اللفظ الفرنسى الإنجليزى لهذه الحالة، وهى Anomie، قريبة جداً من المصرية العامية «وأنا مالى»!

وقد مثّل ميدان التحرير بالنسبة للآلاف، ثم للملايين، حالة مُضادة «للأنامالية»: فمن العزلة إلى التواصل، ومن عدم الاكتراث إلى الانخراط، ومن الخوف إلى الأمان، ومن الشك فى الآخر إلى الثقة بمن يُجاوره فى الميدان، ويقتسم معه رغيف خُبز، وزجاجة مياه.

ولكن كما يذهب أحد الأقوال المأثورة: «إن زاد الشىء عن حده، انقلب إلى ضده»، وهكذا حالة ميدان التحرير.. فلأنه يقع مادياً فى قلب العاصمة، وهو الصلة بين شرايينها الرئيسية. ولأن القاهرة هى بمثابة القلب لكل الديار المصرية، فإن تعطيل أو سد هذه الشرايين لمدة أطول من أيام أو أسابيع يمكن أن يؤدى إلى عواقب وخيمة.

لذلك ينبغى مُقاومة «عادة التحرير»، قبل أن تتحول إلى حالة «إدمان التحرير».

فكما أن السُلطة إفساد، فإن الإدمان إهلاك، فلنراقب ولنحاسب من هم فى السُلطة، حتى لا يُفسدون، وليتحاشى المواطنون الإدمان حتى لا يهلكوا.

  

المصري اليوم - د. سعد الدين ابراهيم