اخر فرسان بكر وتغلب

خيري الذهبي - تشرين

للمرة الأولى في حياتي بعد عودتي من مصر أجد نفسي أعيش مع عصبة أمم حقيقية حين التقيت شرائح المجتمع السوري ليس الحالية فقط بل الكلاسيكية والتاريخية, ففي الحسكة تعرفت للمرة الأولى على المسيحيين السوريين القادمين من تركيا، فتعرفت إلى الطوارنة وهم القادمون من جبل الطور في تركيا الحالية، والقصوارنة أي القادمين من بلد تدعى قصر (اسم ما) ...نسيت اسمه، والماردينلية أي القادمين من ماردين، والأورفلية القادمين من أورفه، كانوا جزءاً من تاريخ كلاسيكي احتفظوا فيه بثقافتهم الخاصة كممثلين لآخر مكان للمسيحيين السوريين خارج سورية السياسية المعاصرة، وكان الكهول منهم يلبسون العقال على طريقة البدو ما ذكرني بالمسيحيين العرب التاريخيين بكر وتغلب وكلب وقضاعة.

كنت أفاجأ بالجمال الخارق لبناتهم ولأناقتهن في الثياب المعاصرة (آخر موضة) وهن يتفسحن على شاطئ الخابور حتى إذا ما أنهين نزهتهن اليومية مضين إلى بيوت شديدة التواضع في العمارة ومواد البناء، ولكنك إن دخلت واحداً من هذه البيوت فستشهد عادات وضيافة شديدة الرقي والأناقة وأثاثاً شديد النظافة والترتيب، كانوا في طريقة استقبالهم يصرون على أنهم ينحدرون من حضارة مدينية راقية، وكان في طعامهم كل مهارة المطبخين السوري والتركي في آن واحد، وأشهد أني أكلت لديهم أطيب ورق عنب محشو أكلته، وأطيب كبة سأقضي وقتاً طويلاً حتى أذوق ما يقاربها في مدينة الموصل بعد سنوات طويلة.

كانوا يموِّنون أنواعاً من اللحم لم نكن نعرفها في مدن الداخل كذلك الذي يسمى بالشرادين والقلية أو القاورمة وهو لحم كنا نعرفه في مدن الداخل قبل انتشار البرادات، والبسطرما المنزلية والمارتيديلا وكانت زوجة صديق قد قدمت لي من هذه المارتيديلا المنزلية ما لم أكن أعرف أنه يعدُّ منزلياً.

وحين تساءلت على عادتي عن سبب تعلقهم بهذه المآكل اكتشفت أنهم لعيشهم الطويل في قرى ومدن كان ثلج الشتاء يعزلها طويلاً عن الأسواق وربما الشتاء بأكمله فاضطروا إلى تطوير هذه المهارات والاستزادة من هذه المخزونات.

في الحسكة تعرفت على الآشوريين، وللتسمية بعض الخلاف، فالمؤرخون وعلماء اللغة يدعونهم بالسريان الشرقيين، وربما كانوا ينتمون مذهبياً إلى مذهب مسيحي قديم كان يدعى بالنسطورية، أما الكلدانيون فهم ينتمون إلى المجموعة نفسها عرقياً ولغوياً ولكنهم تحولوا عن مذهب الآشوريين إلى الكتلكة فسموهم بالكلدانيين وليسوا من الكلدان في شيء، بل هم سريان شرقيون أيضاً.

في الحسكة تعرفت إلى الأرمن، وكان معظم الميكانيكيين من الأرمن، وكانوا يصرون ولست أدري لماذا على الخطأ في استخدام ضميري المذكر والمؤنث، ولم يحدث أن سمعت منهم من يخطئ في خطئه في الضمائر فيصيب لكن حضورهم كان غالباً في سواقة وتصليح الحصادات والتراكتورات العملاقة حين يعجز الآخرون فهم سادة الميكانيك، وكانوا منقسمين أيضاً إلى أرثوذكس وكاثوليك. وكان الجميع يتعايشون دون أي مواقف مسبقة ترجع إلى خلاف ديني أو مذهبي.

في الحسكة تعرفت إلى كاهن سرياني كاثوليكي علمت فيما بعد أنه توفي، وكنت كلما رأيت لحيته ولطفه ومحبته لما يسمى بالحياة اللذيذة، لعب الورق والطاولة وهما تسليتا الحسكة الأكثر ذيوعاً وفي تذوق بعض الشراب. هذا الكاهن لاحظ أن بنات الطائفة أخذن يهربن مع أي زوج يعرض عليهن الزواج هرباً من ضغط الآباء والمجتمع وكان مجتمعاً شبه بدوي كما أسلفت فحفل العرس فقط كان يكلف ثروة في عدد الذبائح والذهب المطلوب إهداؤه... إلخ .. ولم يكن الشبان قادرين على القيام بكل هذه التكاليف، فكانوا يهاجرون إلى مدن الداخل وهناك يتزوجون، فأخذت البنات يعشن. هذا الكاهن وقف يوماً في الكنيسة وأعلن أنَّ أية بنت تأتي إليه ومعها المتقدم إليها زوجاً فسيكللهما (يعقد لهما القران) فوراً وبغض النظر عن رضا الأبوين والعشيرة والطائفة فكان في فعلته هذه ثورياً ما لبث أن استقطب الشبان والشابات إلى كنيسته.

كانت الحسكة تمثل ذلك الزمن الجميل، زمن الحضارة العربية الإسلامية زمن العباسيين والأمويين والأندلسيين والتعايش والتمازج الثقافي حين لم يكن المسلم يخاف المسيحي أو اليهودي ولا يراه امتداداً للغرب العدواني، بل يراه أهل كتاب يحترمه ويوقره إلى أن كان الصليبيون الأوروبيون، فكان أول ضحاياهم التعايش الأصيل بين مكونات الشرق، وكانت بلاد الشام زمن الحروب الصليبية مسكونة بمسيحيين ربما كانوا نصف السكان، فما فعلت الحروب الصليبية إلا أن حرضت السلاجقة ثم المماليك على الخوف من المسيحيين الذين يعيشون بينهم، وحولت الخصومة السياسية بين الشرق والغرب إلى خصومة دينية وحذر، ولكن الحروب الفرنجية انتهت بهزيمة الغرب وعاد التعايش ثانية إلى المنطقة.

و.... مضيت إلى الحسكة، وعشت هذا التعايش في أحلى تجلياته، ولكني بعد عقود حين أزور الحسكة ثانية سأبحث عن ذلك الماضي الجميل فلا أجده فلقد هاجر معظم المسيحيين, وأحس بالأسف, فأنا أعرف أنَّ كثيرين ساهموا في تسهيل هجرة مسيحيي الحسكة بعد الإصلاح الزراعي الفاشل، والجفاف الفظيع في الخابور، والصراعات القومية في الحسكة، كل هذا ساهم في جعلهم ينسحبون إلى الغرب، ولكن... ماذا بعد؟. هل تصل يوماً إلى سورية؟ ذات اللون الواحد..؟ لا أعتقد، ولا أتمنى، ولا أريد.

تنهدت وأنا أغادر الحسكة متمتماً: ما أشد الوحشة في سوريا إذا ما فقدت يوماً تنوعها الذي صنع أجمل ما فيها.