اسرائيل واللعب على حبال الامبراطوريات!

بعد انهيار الامبراطورية العثمانية ١٩١٨ بهزيمتها العسكرية أمام بريطانيا، بدأ بتشكيل شرق أوسط جديد من خلال عمليات التنافس، وتقسيم اقاليمه بين دول اوروبا الغربية، التي كان من ابرزها بريطانيا التي استولت على قلب العالم العربي، وكل من فرنسا وايطاليا في شمال افريقيا.
وان انتصار بريطانيا العسكري، وانتشار ٢٠٠ الف جندي من جيوشها الجرارة في منطقة الشرق الاوسط، وفر لها الفرصة للمحافظة على مصالحها بعمليات المراوغة وفرض الحلول على الكيانات الضعيفة في المنطقة التي ارست فيها قواعد امبراطوريتها الجديدة.
وقد اتضحت المراوغة البريطانية من خلال التباين بين تعهداتها قبل الحرب العالمية الاولى، ومواقفها بعد انتهاء هذه الحرب.
لقد اتفقت كل من بريطانيا وفرنسا على اقتسام مناطق النفوذ، او بالاحرى وراثة ممتلكات الامبراطورية العثمانية في آسيا بعد الحرب من خلال اتفاقية سايكس بيكو «١٩١٦». ولكن الذي حدث بعد انتهاء الحرب من خلال كثافة انتشار الجيوش البريطانية، وسيطرتها على الارض ان نكثت بريطانيا باتفاقياتها مع فرنسا ومع الشريف حسين، وبدلا من اقامة دولة عربية تحت حكمه، احتلت فلسطين والاردن والعراق، وتركت لفرنسا شريحة سورية - لبنانية شمال الساحل الشرقي للبحر الابيض المتوسط. وتحولت السياسة البريطانية في الشرق الاوسط لاقامة العراق وشرق الاردن ركيزتين للامبراطورية البريطانية. وابعدت فرنسا عن فلسطين وتحالفت مع الحركة الصهيونية لتبادل المنافع بين الطرفين كانت لبريطانيا دوافع مضمره لاقامة دولة يهودية في فلسطين. وكانت هذه الدوافع تتمثل في وقف تدفق العمال اليهود الروس الي بريطانيا بسبب منافستهم للعمال البريطانيين بأجورهم الرخيصة اما تشرتشل، فقد اعترف بأنه صهيوني متحمس لانه يريد ان يبتعد باليهود عن الثورة الشيوعية في روسيا (١٩١٧) بتركيز جهودهم على الحركة الصهيونية. وتطلع تشمبرلين الى استثمار اموال اليهود وجهودهم في اعمار فلسطين كمقاطعة في الامبراطورية البريطانية، بالاضافة الى المساهمة في حماية قناة السويس، والحيلولة بين ورثة محمد علي باشاوالتوسع شمالاً .
منذ ان كانت الحركة الصهيونية في طور التكوين تضمنت مبدأين كان لهما اهمية كبيرة في تاريخها المستقبلي. كان اولهما: عدم الاعتراف بكينونة وطنية فلسطينية. اما الثاني فهو: البحث عن حليف قوي من خارج منطقة الشرق الاوسط ليعوض التفاوت الهائل في عدد السكان بين العرب واليهود.
كان من المفترض ان يعقد المؤتمر الصهيوني الاول في مدينة ميونخ بألمانيا، لكن قادة الجالية اليهودية في ميونخ رفضوا استضافة المؤتمر بدعوى انهم ليست لديهم قضية يهودية، وان انعقاد مؤتمر يهودي لن يؤدي الا الى اثارة العداء للسامية.
استهل مؤتمر بال الاول ١٨٩٧ برنامجه بالقول: «ان هدف الصهيونية هو اقامة وطن للشعب اليهودي في فلسطين بضمانة القانون العام». وبموافقته على ذلك البرنامج يكون مؤتمر بال قد تبنى مفهوم ثيودور هيرتزل السياسي للصهيونية. وقد سمى البرنامج "وطنا" وليس "دولة" للشعب اليهودي. ولكن منذ مؤتمر بال الاول كان الهدف الواضح والثابت للحركة الصهيونية هو خلق دولة لليهود في فلسطين.
ان ضعف الاقلية اليهودية بسبب الفارق الهائل في عدد السكان لصالح العرب في فلسطين، جعل الاعتماد على قوة عظمى عنصرا اساسيا في الاستراتيجية الصهيونية.
وان القوة المهيمنة في الشرق الاوسط قد تبدلت عدة مرات خلال القرن العشرين.
في البداية كانت الامبراطوية العثمانية حتى العام ١٩١٨ هي القوة المهيمنة. وبعد سقوط الامبراطورية العثمانية كانت الامبراطورية البريطانية هي القوة المهيمنة. وبعد الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة الاميركية هي المهيمنة.
على الجانب الصهيوني، يعتبر نشر كتاب "الدولة اليهودية" الذي وضعه هرتزل سنة (١٨٩٦)، بداية تاريخ الحركة الصهيونية السياسية التي اصرت على مفهوم ان المسألة اليهودية قضية سياسية ذات صبغة دولية، ويجب ان يتم بحثها في المحافل السياسية الدولية. وكانت تلك الرؤية على العكس من رؤية الصهيونية العملية، التي أخذت بها جماعة «أحباء صهيون» في بعض المدن الروسية (1881)، والتي كانت تعمل على تكثيف الهجرة الى فلسطين واقامة المستوطنات اليهودية بها وعزل الأقطار العربية الآسيوية عن الأقطار العربية الافريقية لإضعاف الطرفين العربيين.
كان من أوائل إنجازات حاييم وايزمن، الذي انتخب رئيسا للمنظمة الصهيونية العالمية (1920) هو حل النزاع بين الصهيونية السياسية (رؤية هرتزل) التي تعتمد على الجهود الدبلوماسية، والصهيونية العملية التي تركز على الهجرة اليهودية المنظمة الى فلسطين، وحيازة الأرض وإقامة المستوطنات. وفي المؤتمر الصهيوني الثامن (1907) ابتكر وايزمن تعبيرا جديدا هو الصهيونية التركيبية او التوليفية، وإن الطريقتين تساندان بعضهما البعض وتشكلان وجهين لعملة واحدة.
يعتبر حاييم وايزمن مهندس التحالف بين الحركة الصهيونية وبريطانيا العظمى. فان امتياز الاستيطان الذي فشل هرتزل في الحصول عليه من الاتراك العثمانيين، استطاع وايزمن أن يحصل بدلا منه على وعد بلفور 2 / 11/ 1917 من بريطانيا باقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
منذ وعد بلفور (2 تشرين الثاني 1917) كانت شكوك وزارة الخارجية الأميركية حول الصهيونية تتكثف الى أن تحولت الى عداء شديد. فقبل الحرب العالمية الثانية وخلالها قام «ولاس موراي» مدير دائرة الشرق الأدنى في وزارة الخارجية الأميركية بتحذير كل من وكيل الوزارة «سمنر ويليس»، ووزير الخارجية «كورديل فل» بالبقاء في منآى عن الصهيونية، وأوصاهما بعدم القيام بأي عمل من شأنه تعقيد علاقة بريطانيا بالعالم العربي. فقام وزير الخارجية كورديل هل بنقل التحذير الى الرئيس فرانكلين روزفلت الذي استجاب الى التحذير لدرجة الامتناع حتى عن ارسال تحية شكلية الى الحضور في المأدبة السنوية التي أقامها «الصندوق القومي اليهودي» في ديترويت. كما أن وكيل وزارة الخارجية «سمنر ويليس» المحاور التقليدي لليهود في وزارة الخارجية قد شارك في هذا التحفظ. وكتب ويليس مذكرة الى مرؤوسه ولاس موراي، جاء فيها :«إنني أعتبر أنه في غاية الأهمية أن تقوم الحكومة بعمل كل ما يجب لمنع الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة الأميركية من إضافة عقبات أخرى إلى العقبات التي تواجهها بريطانيا في الشرق الأدنى».
كان الرئيس فرانكلين روزفلت متردداً في تحقيق آمال زعماء الحركة الصهيونية، وفي عدة مناسبات ذكر روزفلت لوزير ماليته اليهودي هنري مور جنثاو عن اهتمامه بعدم معاداة العرب، وعن شكه في قدرة فلسطين في استيعاب ملايين اليهود من المهاجرين الجدد.
وقع خبر وفاة الرئيس روزفلت (1945) ، وتولى نائبه ترومان منصب الرئيس وقوع الصاعقة على رؤوس الأميركيين. كان الفارق هائلا بين ترومان وروزفلت الذي لم يشركه في التخطيط في اتخاذ القرارات المهمة، لأنه كان يفتقر الى الخبرة في شؤون العلاقات الدولية، وخاصة مع قوى عظمى مثل بريطانيا وفرنسا.
عندما تسلم ترومان مهامّه كان ضمن العاملين في ادارته اثنان من أشد اليهود حماسا في الدفاع عن المصالح اليهودية، وهما كلارك كليفورد من ضباط الأسطول، وديفيد نايلز مساعد ترومان لشؤون الأقليات. وكانت المهمة الأساسية لكل من كليفورد ونايلز هي الضغط على الرئيس ترومان باستخدام ورقة الانتخابات القادمة في تشرين الثاني 1948، لتحقيق مطالب اليهود في فلسطين.
وبجهود الرئيس ترومان صدر قرار تقسيم فلسطين عن الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم السبت 29 تشرين الثاني 1947.
في لحظة نادرة من التوافق بين قطبي الحرب الباردة، صوتت كل من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي مع قرار تقسيم فلسطين. أما عرب فلسطين الذين لم يهيئوا أنفسهم لإقامة دولة، لا على كل فلسطين ولا على جزء منها، فان الهيئة العربية العليا برئاسة الحاج أمين الحسيني استنكرت قرار التقسيم.
ووصفته بأنه «سخيف»، و «غير عملي» و «غير عادل». اما جامعة الدول العربية، فقد وصفت قرار التقسيم بانه «غير عادل»، وهددت بمقاومة تطبيقه بالقوة.
جاء قرار الحكومة البريطانية تحويل قضية فلسطين الى الامم المتحدة (شباط ١٩٤٧)، بعد ان ضاقت ذرعا بالتكاليف المالية والبشرية التي تتكبدها للمحافظة على النظام العام في فلسطين. وامتنعت بريطانيا عن التصويت على قرار التقسيم (١٩٤٧) وخلال الحرب الفلسطينية (١٩٤٨) التزمت بريطانيا بمعاهدتها الدفاعية مع الاردن، مما جعل بن غوريون يحجم عن احتلال الضفة الغربية، ومن ناحية اخرى كانت الضفة مزدحمة بالسكان العرب الذين لم يرغب بن غورويون في اضافتهم الى سكان اسرائيل.
اما الدرس الذي تعلمه بن غوريون من حرب السويس ١٩٥٦ هو ان الاحتلال في الحياة المعاصرة لا يعطي المحتل حق الاحتفاظ بالارض المحتلة لذلك توقف عند حدود الامر الواقع الذي حددته اتفاقيات رودس (١٩٤٩). وبدلا من التوسع تبنى استراتيجية الردع.
بينما كان الردع واحدا من اهم عناصر استراتيجية بن غورويون لما بعد حرب السويس، كان العنصر الاخر الذي يبحث عنه بن غوريون هو ضمان امن اسرائيل من قبل قوة خارجية. فقد كان يعي مدى عزلة اسرائيل على المستوى الدولي في مواجهة الاخطار.
اتجه بن غوريون الى اميركا القطب الاخر للحرب الباردة لطلب السلاح، والدعم السياسي، والضمان الامني، وقد الحق طلبه باقتراح مجابهة عامة ضد الاتحاد السوفياتي وحلفائه العرب. ولكن الاميركيين ظلوا على هدوئهم ، ورفضوا مدّ اسرائيل بالسلاح لانهم كانوا على علم بأنها اقوى من جيرانها العرب. ولان اميركا كانت في حاجة الى نفط العرب، والى مشاركتهم في احتواء الاتحاد السوفياتي.
فاتجه بن غورويون الى محاولة بناء صلة بين اسرائيل وحلف شمال الاطلسي أدنى من العضوية، وفقط على مستوى التعاون والتنسيق للخطط الدفاعية، ولكن تحت الضغط الاميركي الشديد رفض مجلس الناتو (NATO ) اقامة اي ارتباط باسرائيل.
مع انتهاء الحرب الباردة، انفض السوق الاسرائيلي للمتاجرة بها على اميركا، والتشكيك في نوايا العرب العدائية والتخويف من تحالفهم مع الشيوعيين. ولكن سوق الدعاية الاسرائيلي يعمل على محورين، هو ان العرب والمسلمين متطرفون وارهابيون، ويكرهون الحضارة الغربية (التي تضع اسرائيل نفسها ضمنها) ، لذلك يجب ان يظل الغرب بل يضاعف من كراهيته وعدائه للعرب والمسلمين .. ولكن هيهات!.
ان اسرائيل فقدت فعاليتها في مواجهة العرب. ففي مؤتمر مدريد (١٩٩١/١٠/٣٠) خير الرئيس بوش (الاب) اسحق شامير بين المساعدات الاميركية او الاحتفاظ بالمناطق المحتلة.
خلال حرب الخليج، اطلق العراق ليلة ١٩٩١/١/١٨، ثمانية صواريخ من طراز سكود على اسرائيل سقطت في تل ابيب وحيفا. وبلغ عدد الصواريخ التي سقطت على اسرائيل خلال الحرب ٣٩ صاروخا، وهنا ظهر التحول الخطير في وضع اسرائيل في الشرق الاوسط. فانها لم ترد على الهجوم العراقي، بينما كانت القاعدة هي ان اسرائيل التي تبادر بالهجوم والقيام بالمهمات العسكرية، اصبحت مقيدة بتعهد قدمه اسحق شامير الى جورج بوش (الاب) بعدم مهاجمة العراق دون التنسيق مع اميركا.
اما نحن عرب الفصول الاربعة، فيجب ان لا نغفل عن اللعبة الاسرائيلية المبتكرة والخطرة، التي بدأت باستيطان الارض الفلسطينية المحتلة عموديا بعد ان ضاقت افقيا بالمستوطنين.
اننا لا نستغرب لقلق اسرائيل الذي بدأ يتضاعف في غياب سلاح لمواجهة مئات الملايين من العرب .. ممن لاهم بعسكر ولا بحكام!.