الآيس كريم اختراع دمشقي انتشر في العالم

تيسير أحمد- شام نيوز

 

 

مع اشتداد حر الصيف في دمشق تبدأ محلات البوظة الدمشقية بعرض أفخر ما لديها من مثلجات تعتمد على تقاليد عريقة عمرها عشرات السنين. وزوار دمشق من مختلف الأقطار العربية يعرفون جيداً طعم "البوظة الدمشقية" الشهيرة وكثير منهم يتوجه أول ما يتوجه في فصل الصيف إلى محل "بوظة بكداش" الواقع منتصف سوق الحميدية حيث ما يزال يحتفظ برونقه القديم وطريقته التقليدية في تقديم "البوظة"، حيث يقوم عامل يرتدي طربوشاً أبيض طويل يدق الثلج مع الفواكه أو الحليب بمدقة خشبية كبيرة جداً فيتحلق حوله الأطفال وهم يراقبون البوظة وهي تتشكل ولعابهم يسيل من فرط الشهية.

 

بوظة بكداش تاسس عام 1895 كما هو مبين في الشاخصة اعلاه

 


في عام 1895، افتتح شاب سوري يدعى محمد حمدي بكداش أول محل لبيع "البوظة" والتي تسمى في العالم "الآيس كريم" في دمشق، فتقاطر سكان المدينة لتذوق هذه المادة اللذيذة الغريبة التي ذاعت شهرتها، وصارت محط اهتمام وإعجاب الجميع، وبذلك تعتبر دمشق أول مدينة تباع فيها هذه المادة.

ولم يجد الشاب الدمشقي المثابر اسماً يطلقه على هذه المادة الجديدة فاستعمل الاسم التركي القديم البوظة الذي كان يعني الشراب البارد، وهذا لايعني أن أصل المادة أتى من تركيا، بل على العكس أرسلت السلطنة العثمانية وفداً لمعاينة هذا الاختراع الجديد عندما وصلتها أخباره، وشارك هذا الوفد بافتتاح محل بوظة بكداش.

كانت مكونات "البوظة" بداية توضع في "طبقات" أوان نحاسية ضخمة، مغلقة ببراميل خشبية ويملأ التجويف بين الخشب والنحاس بالثلج الطبيعي مضافا إليه الملح، ما يمكّن البوظة من المحافظة على قوامها الصلب وبرودتها. ‏

ويتم الحصول على الثلج من قمم الجبال، ويخبأ إلى فصل الصيف في الكهوف والمغارات العميقة وسط عوازل طبيعية من الاعشاب، ثم يحكم إغلاق المغاور لحين الحاجة إلى الثلج، وهكذا تفتح المغاور في الصيف وتؤخذ منها قبل بزوغ الشمس كميات الثلج المطلوبة، وتواصل الأمر على هذا الشكل حتى عام 1936م، عندما اخترع اصحاب محل بوظة بكداش أول آلة كهربائية لتجميد البوظة. بأيديهم.

 

للمهنة أسرار


ويؤكد الباحث محمد مروان مراد أن صناعة البوظة  شهدت تطورات عديدة مع الأيام، وإن كانت مكوناتها لاتزال بصورة عامة تعتمد على الحليب الطازج، والسحلب الموجود في أعالي الجبال وهو مادة مفيدة للجسم، إضافة للسكر وماء الزهر وماء الورد البلدي وبعض أنواع الأعشاب، ويمزج الفستق الحلبي من الطبخة الأولى مع مكونات البوظة وكذلك القشطة، وتميزت دمشق بنوع جديد من البوظة أدخلت في مكوناته الفاكهة الطبيعية. ‏ ‏

 

 

سر المهنة


ويضيف مراد أنه بعد تحضير المكونات تبدأ عملية الطبخ بوضع الحليب الطازج ضمن طرنبات نحاسية كبيرة محوطة بأنابيب ماء يغلي، دون تعريضه للنار بشكل مباشر طبعا لعدة اعتبارات: أولا لتبخر الماء الموجود في الحليب فيصبح دسمه أعلى وبالتالي يحتفظ بلونه الابيض الناصع، ويستمر في الغليان بدرجة حرارة 130 لمدة ساعة ونصف، وبعدها يضاف السكر المخلوط بالسحلب البلدي والمسكة ويترك يغلي لفترة لتعقيم المواد الاخرى، ثم ينزل لآلات التبريد الحديثة ويبرد بهدوء لمدة ساعتين، ثم يضاف ماء الزهر والفانيلا والمواد الأخرى المنكهة، ومن ثم تأخذ الخلطة للتجميل عن طريق اللف الحلزوني، وهذه العملية تعطي البوظة شكل الكريمة بسبب الخفق المستمر، وهناك طريقة أخرى هي الدق بالمكابس الخشبية اليدوية، فالعامل يدق الخلطة المجمدة حتى تصبح بقوام "العلكة" وبهذه الطريقة يمكننا التحكم باشكال تقديمها.. أما إدخال الفاكهة الطبيعية فتكون في المراحل الأخيرة من غليان الحليب طبعا بعد إخضاعها لعملية تنظيف متكررة، وتغلى مع الحليب حتى يتم تعقيمها، ثم تنتقل إلى الخلاطات لتتجانس مع الحليب، ومن ثم تؤخذ لآلات التجميد وأثناء تناولها يشعر الإنسان انه يتناول الفاكهة وكأنها طازجة، وطبعا تراعى كمية السكر المضاف للبوظة حسب وجود السكر في الفواكه. ‏

 

البوظة والمحلاية


وتحتوي البوظة العربية على مكونات طبيعية، أي لا تحتاج لدرجة تجميد كغيرها من المثلجات، فأحيانا تكون درجة الحرارة في الجو أبرد من البوظة شتاء، وما دامت مكوناتها تحتوي على دسم عال، فلا تؤثر سلبا بل تعطي نتائج عكسية «صحية» للإنسان لما فيها من مواد غذائية. ‏

لم تمض سنوات قليلة حتى أصبحت البوظة تقدم في كل المناسبات، فقد استبدل الناس الشراب بالبوظة في الأعراس ولكل الشرائح الاجتماعية، ومن ثم صارت جزءاً من طقوس الموالد لتقدم مع السكاكر والملبس، وفي بداية الأربعينيات درجت البوظة حيث تعلق بأشكال ضخمة بكابلات وتقطع بالسكين. ‏

كانت ألمانيا أول من حاول تقليد البوظة العربية، ومن ثم فرنسا وروسيا وشمال إفريقية، وفي العقدين الأخيرين، افتتحت بعض المدارس لتعليم البوظة العربية في أميركا وتحديدا في نيويورك وشيكاغو ولوس انجلوس، وفي فرنسا افتتحت مدرسة البوظة الدمشقية، كما يقول الباحث مراد. ‏

 

بوري بوظة


وما يروى في هذا المجال: أن مواطنا سوريا من آل الحموي كان يعمل ببيع الفطائر في محله في مدينة "سانت لويس" الأمريكية، وقبيل افتتاح المعرض الدولي فيها عام 1904، حصل الرجل على ترخيص لبيع الزلابية: وهي كعكة فارسية رقيقة تقدم مع السكر في أطباق صغيرة، ومع الأيام الأولى لافتتاح المعرض- وكان الصيف حاراً- راح البائع يعبئ الزلابية الساخنة في أوراق لفها على شكل قمع، حتى إذا بردت أضاف إليها ملعقة من البوظة، وحقق الابتكار الطريف نجاحا كبيراً. وأطلق عليه الناس "قمع كريم" المعروف اليوم باسم "الإيمع".