الأزمة السورية أمام مفترق حاسم

 

تدخل الأزمة السورية في مرحلة حاسمة، وتتصدر الأنباء عن حراك السلطة والمعارضة  نشرات الأخبار، وتراقب الأطراف العالمية مهمة المبعوث المشترك لمجلس الأمن والجامعة العربية كوفي عنان باهتمام بالغ، ومع اقتراب مؤتمر أصدقاء الشعب السوري في نسخته الثانية في اسطنبول تتزايد الضغوط العربية والدولية على المعارضة والنظام لتحديد مواقف واضحة من مبادرة عنان، ورسم معالم سورية في المرحلة المقبلة، وتجنيب البلاد خطر الانزلاق إلى حرب أهلية دموية وطويلة الأمد، وليس من باب المبالغة القول إن الشهر الأول من عام الحراك الثاني في سورية سوف يرسم ملامح الحل ويترك أثراً كبيرا في مستقبل البلاد على مدى سنوات طويلة مقبلة.

 

السلطة ... رسالة النصر وما بعدها

تزامناً مع إعلان عنان موافقة السلطات السورية على خطته للتسوية السلمية، نزل الرئيس بشار الأسد إلى الشارع وجال في حارات باباعمرو في مدينة حمص، ونقل التلفزيون الرسمي مقاطع تظهر الرئيس محاطاً برجال ونساء في الحي الحمصي المنكوب، وأكد لهم أن الأوضاع سوف تصبح أفضل مما كانت عليه سابقاً، وفي مقاطع أخرى يتابع الأسد سير أعمال الصيانة وإعادة إصلاح البنية التحتية للحي. وفي لقائه مع عدد من الجنود أثنى الأسد على دورهم وجهودهم على مدى العام الأخير.

والواضح أن النظام أراد بعث رسائل داخلية وخارجية عدة أهمها على الإطلاق أن النظام على الأرض أقوى، وأنه انتصر على "الإرهاب" المدعوم خارجياً، وهي رسالة تشير إلى أنه إذا أراد الدخول في حل سياسي فهو من موقع المنتصر والمسيطر على الأرض وليس من موقع الضعيف، وأنه بعد نجاعة الحل الأمني في التصدي للمجموعات المسلحة مستعد للدخول في حوار وطني شامل حول مستقبل سورية، كما أنها رسالة إلى القمة العربية ومؤتمر اسطنبول لعدم المراهنة على تفكك السلطة والمبالغة في دعم المعارضة، وداخلياً لايرغب النظام في تفسير قبوله مبادرة عنان على أنه رضوخ للضغوط الدولية بل كمحطة من محطات الاصلاح المتواصل من بداية الحراك في مدينة درعا الجنوبية منتصف آذار من العام الماضي، وفي هذا الاطار يصب طلب مجلس الشعب تأجيل الانتخابات التشريعية إلى ما بعد السابع من مايو/ أيار المقبل، على أنه لاعطاء المجال لمواصلة الإصلاحات ودخول جميع القوى الراغبة في رسم ملامح انتقال سورية إلى الديمقراطية دون تغيير رأس النظام، والمحافظة على مؤسساته.

 

المعارضة.. وحدة اضطرارية أم دائمة

من دون التقليل من حجم النتائج التي خرج بها مؤتمر اسطنبول لتوحيد المعارضة في 27 آذار الجاري، إلا أنه لا يمكن المراهنة على استمرار وحدة المعارضة طويلاً نظرا لإختلاف برامجها التي تصل أحياناً إلى حد التناقض، وهذا ما بدا واضحاً في انسحاب وفد المجلس الوطني الكردي، وتسويف إعادة هيكلة المجلس الوطني لمدة ثلاثة أسابيع ربما تتلوها فترات أخرى، وهو ما يحرم المعارضة مرة أخرى من الدخول موحدة الصفوف والرؤية إلى مؤتمر أصدقاء سورية المقرر عقده في اسطنبول بداية الشهر المقبل، كما يرسل رسالة إلى قمة بغداد العربية حول عدم جهوزية المعارضة وتوحدها كاملة حول برنامج محدد.

وحتى لا نجانب الحقيقة فإن اجتماع المعارضة الأخير خلص إلى ضم مجموعة من القوى والشخصيات، وكسب اعترافاً من قوى جديدة بتمثيل الشعب السوري مع دخول هذه القوى إلى اطاره التنظيمي، كما أفضى إلى بلورة خطة لمستقبل سورية وهو الطلب الأكثر الحاحاً بالنسبة للحكومات الغربية والعربية على حد سواء.

ويبقى السؤال هو كيف ستتعامل المعارضة مع عدد من القضايا أهمها تسليح الثورة، والموقف من الجيش الحر، إضافة إلى اتخاذ موقف واضح من الحوار مع النظام دون طرح شرط تنحية الأسد وفق مبادرة عنان، وهو ما قد يخلق انشقاقات جديدة في صفوف معارضة تأخرت كثيراً عن الحراك الشعبي، وبات قسم كبير منها منقاداً لأجندة متطرفة في الداخل والخارج، بدلاً من التفكير برسم الخطوط العامة لدعم الثورة وتجذيرها وتحديد وجهتها الصحيحة.

ولعل الأهم هو هل كان تحرك المعارضة لتوحيد صفوفها انطلاقاً من قناعة حقيقية أم تنفيذاً لتوصيات خارجية قبل الاستحقاقات المهمة المقبلة.

 

الحراك العربي والدولي ونقطة الانعطاف...

بعد أكثر من عام على عجز أي طرف من حسم الحراك في سورية لمصلحته، باتت الأطراف العربية والدولية مجمعة على أن مهمة عنان قد تكون الفرصة الأخيرة للتوصل إلى حل يفضي إلى حل الأزمة السورية في شكل سلمي دون الانزلاق إلى حرب أهلية وطائفية كتلك التي يكتوي بنارها حتى الآن جيران سورية في لبنان والعراق. ومازال الدبلوماسي الأممي يفعل أكثر مما يتكلم، ويتسلح بمبادرة أصرت روسيا على أن تكون جزءا من البيان الرئاسي للتفويض الأممي.

ووافق النظام والمعارضة في سورية على مبادرة عنان التي تتضمن الالتزام بوقف القتال في أسرع وقت تحت إشراف الأمم المتحدة لوقف أعمال العنف المسلح بكل أشكاله، ويطالب الحكومة بوقف تحركات القوات ووضع حد لاستخدام الأسلحة الثقيلة في المراكز السكنية والبدء في الانسحاب العسكري من داخل وحول المناطق السكنية، ووضع آلية فعالة لمراقبة الأمم المتحدة حول مدى التزام الأطراف.

إضافة إلى تنفيذ هدنة لمدة ساعتين يوميا لوصول المساعدات الإنسانية لجميع المناطق المتضررة من القتال، وتكثيف أعداد ووتيرة الإفراج عن المعتقلين والمحتجزين بصورة تعسفية، من الأشخاص والمشاركين في أنشطة سياسية سلمية.كما تدعو المبادرة إلى ضمان حرية التنقل في جميع أنحاء البلاد للصحافيين، وضمان عدم ممارسة سياسة تمييزية في منح التأشيرات لهم، وأخيراً احترام حرية التجمع والتظاهر السلمي المكفولة قانوناً.

ومما لاشك فيه أن المبادرة لا تمثل وصفة سحرية لحل الأزمة السورية لأن بنوداً كثيرة منها جاءت في قرارات سابقة للجامعة العربية، وكانت جوهر الاتفاق الروسي العربي لحل الأزمة، لكن الدعم الدولي الكبير لها، والثقة بمهنية عنان ربما شكلا دافعاً كبيراً، للتوصل إلى حل يبدأ بمعالجة القضايا الإنسانية ويفسح المجال لحل سلمي يتوافق عليه السوريون، لكن الواضح أن المجتمع الدولي بات يدرك أن سورية على مفترق طرق حرج، وأنه لابد من دفع الأطراف إلى حل يوقف حمام الدم ويمنع الانزلاق في مستنقع حرب أهلية دامية، أو حرب في المنطقة على أساس طائفي.

 

الحل السوري... تقاسم السم وصدق الأقوال

رغم صعوبة الجزم بالتوقعات في مجالي السياسة والمستقبل فإن مبادرة عنان تعتبر الفرصة الأخيرة للتوصل إلى حل سوري ينهي التدخلات الأجنبية، ويفضي إلى بناء سورية جديدة على أسس تختلف عما سبق منتصف آذار 2011، يحرم سفك الدم والاعتقال على أساس سياسي، ويتم الاحتكام إلى الشارع بطرق ديمقراطية لتحديد مستقبل البلاد، خصوصاً أن  الأحداث بينت عجز أي طرف عن اقصاء الآخر، رغم حجم الدعم الذي يتلقاه كل منهما من أطراف خارجية، ما يحتم ايجاد سبل جديدة للحل.

وفي الأسبوع الأخير بعثت المعارضة رسائل تطمين داخلية وخارجية، وعملت على طرح تصوراتها لسورية المستقبل، كما أعلنت السلطات موافقتها على مبادرة عنان ووجهت رسالة رد على المقترحات، ومما لاشك فيه أن الطرفين أمام اختبار جدي لصدق النوايا في التوصل إلى حل سوري للأزمة، وربما توجب على الطرفين تجرع السم بالتقاسم للوصول إلى حل وسط يضمن المحافظة على مؤسسات الدولة وعدم انهيارها، وإلا فإن البلاد ستواجه لامحالة مخاطر حرب أهلية دامية تكوي بنيرانها الجميع، وسيصبح عدد القتلى الحالي المقدر حسب الأمم المتحدة بتسعة آلاف رقماً متواضعاً جداً، ويبقى الأمل معقوداًعلى الأفعال لا الأقوال لتجنب الأسوأ، ولا بد من التذكير بالمثل العربي "أفلح إن صدق".