الأزمة السورية من خلال تجربة شخصية... إلى لندن... المحطة الأخيرة

محمد عبد الله الاحمد - بلدنا
كان المشهد السوري في تصاعد مخيف ومؤلم، وكان عدد الشهداء من كلِّ طرف في تزايد مستمر، وكانت الحالة في حمص قد اتخذت شكلاً طائفياً معيباً، ولم أكن كإنسان أمتلك أية وسيلة احتجاج على ما يحصل، فقرَّرت الإضراب عن الطعام لمدة ثلاثة أيام، وأرسلت إلى قناة الحوار معلناً إضرابي هذا، محتجاً على الخطف والقتل وملامح الحرب الأهلية التي تبدو في الأفق، لكنَّ أحداً لم يكن ليسمع صوتي،
وحتى أولئك الموجودين في بلغاريا من السوريين لم يقبلوا مقترحي لجلسة حوار بيننا، تكون مثلاً يُحتذى به. وكان واضحاً أنَّ قرار رفض أيّ حوار متّخذ، وهناك إصرار شديد عليه وتنبيهات وتحذيرات، وإلا فكيف يمكن لأصدقاء الأمس أن يرفضوا حتى دعوة القهوة مع من كانوا إخوة وأحبة إلى زمن قريب؟!..
كان مقدِّم البرنامج الإعلامي موسى العمر قد بدأ يتحوَّل إلى شخصية محبوبة بالنسبة إلي؛ فقد كان يستقبل كلَّ الكلام بصدر رحب، ودائماً على قدر عال من الدماثة والأدب.
وأستطيع القول إنني وموسى أكثر من تحاور في كلّ الشأن الوطني والأزمة السورية منذ بدايتها في مبنى القناة وأمام الجمهور وفي الجلسات الخاصة بيننا..
في قناة الحوار، عمل شاب من آل الوادي من حوران كمنسق ومعدّ للبرامج، وكان مكلفاً الاتصال بي للمداخلة عبر الهاتف، وهو الذي عرض عليّ القدوم إلى لندن أكثر من مرة.. اكتشفت فيما بعد أنه يتمتع بتقدير سيئ لطبيعة موقفي، تماماً مثل المؤيدين، الذين لايسمعون مني هتافاً يبحّ الحناجر، فيظنون أنني أستعدّ للانشقاق.. هو هذا العقل نفسه، فعليك أن تكون نمطياً في كلّ شيء، وأمامك نمطان كلٌّ منهما يأخذ البلد إلى طرفه، فتنشقّ البلد!!.
سمع مني نقداً للدولة، ورغبة في التغيير، وحباً بالحرية..
وكيف لا، وهي شعار البعث، وأنا على طول الخط كنت أسأل نفسي: ما به شعار الحرية، أليس بعثياً بامتياز؟.. سمع مني أيضاً لغة ليس فيها سباب للمعارضين، ولا اتهامات مجانية بالعمالة، بل نوعاً آخر من الكلام، ظنَّ معه أنني أقرع الباب للدخول في المعارضة بكلِّ بساطة.
وعندما سمع كلامي، في بداية لقائنا في لندن، قال لي: يا دكتور لحق حالك إنهم يتقاسمون الكعكة، خذ حصتك منها!!.
هل هي سذاجة؟.. هل هو مدفوع ليقول هذا؟..
قلت له، وكان معنا مذيع فلسطيني: أنا هنا لأوصل كلاماً للجميع لكي يجلسوا إلى الطاولة وينقذوا سورية، وليس لكي أنهش في لحمها أنا أيضاً..
هنا تغيَّر الحديث، وصار عن أشياء أخرى، حتى بدأت الحلقة في الثامنة مساء، حيث تمَّ تغيير المذيع قصداً، والاستعداد بعدد من الاتصالات والمقاطعة والهجوم الدائم على كل فكرة وعبارة. ولا يفوتني أن أذكر أنَّ أخطر ما سمعته، عندما حذّرت من الانقسام الطائفي، أن المذيع قال لي قبل الحلقة: الأقليات نسبة قليلة في المجتمع السوري، ويمكن العيش دونها!!.
قلت له: هل هي دعوة للتطهير العرقي والطائفي؟!.. مبروك عليك أيها الفلسطيني تقليد عدوك في التفكير العنصري..
سكت أخونا عندها حتى بدأت الحلقة بيني وبينه.
كان أسوأ ما في المشهد يحصل على الأرض في سورية، ومن الواضح والجلي أنَّ الكارثة مستمرة على حساب السوريين، وأنَّ نوعاً من الشيزوفرينيا الوطنية قد بدأ، وأخطر ما فيها أنَّ الطرفين يعدان بالانتصار (غداً) أحدهما على الآخر. هنا، وعندما كنت أستطيع ممارسة التأمل والتفكير، كانت إحدى أهم الأفكار التي تمرّ في خاطري تتعلّق بضرورة بناء الموقف الفردي السياسي على الإيمان بفكرة وقضية، أو على التبصر بالمصلحة الوطنية الجامعة وردّ المخاطر عن الناس. فالحرب القائمة ليست حرباً مع إسرائيل، وهي حرب داخلية!!.. فأيّ خطاب تحتاج ويحتاج أيّ شخص للدخول في حرب ضدّ أخيه؟!!. كانت هذه هي معضلتي الأولى.
فلقد كنت أشاهد شخصيات تنطحت للدفاع عن الدولة والنظام، وكان أغلبها يفقد القدرة على التماسك حين يجرّه منافسه لتبادل الشتائم والتوصيفات، وكان هذا مطلوباً في الأصل لكي تضعف الدولة!.
لقد كانت مشكلتي الثانية مع نفسي هي الهدوء مهما كان وحصل، ولقد استطعته نسبياً، لكن ما كان يزعجني جداً أنَّ مناصري الدولة بدؤوا، بدلاً من إدراك ما ينفعها من خطاب، بفعل ما يضرّها من تصرفات إقصائية وإلغائية، وكانت حصتي وافرة من هذا.
قضيت يومين في الفندق، زارني خلالهما صديق لبناني، اتفقت معه على البقاء في لندن؛ فصوفيا لاتشبه لندن إلا في أنها في أوروبا مثلها، فلقد كانت ومازالت مدينة معاناة منذ سقوط الشيوعية.
كانت الفكرة أن أبقى لكي أستطيع الإطلال، من خلال وسائل الاعلام، ولكن هذا تطلَّب البحث عن عمل حتى أستطيع تأمين مصروفي في هذه المدينة، التي تبيع كيلو الخبز العربي بـ3 باوندات، أي 4 ونصف دولار، بينما ثمنه في سورية 20 سنتاً. وعندما تقول هذا، عليك ألا تستعجل لتصيح ما هي رواتبهم وأن كلهم يعمل!!، فهذا غير صحيح؛ فهناك شحاذون في لندن وعاطلون عن العمل وشريحة كبيرة من الناس لا تكفيها رواتبها، وهناك من يتمتع بدلال فائق!!.
كان أسوأ ما يحصل معي هو أنَّ مجرد وجودي في لندن صار تهمة لدى بعضهم، ممن لم يفهم عقله يوماً لعبة السياسة، لأنه تعلّمها مثل أنشودة تُعاد وتُكرر عند الضرورة دون أيّ تفكير، واضعاً في عقله عدداً من الأصنام الفكرية، التي يعبدها دون أن يدري، أو ربما يدري، ولكن هذا أريح لعقله وتفكيره.. لقد كان هؤلاء ومازالوا في مواقع مختلفة من بنية الدولة والمجتمع؛ هم العقبة الحقيقية أمام التطور السياسي، وهم أحد جوانب الأزمة كعنصر مسبب لها.
أنت في لندن عاصمة التآمر العالمي!
أنت تتحدث من قناة معارضة!
أنت تجالس وتحاور الإخوان المسلمين في الإعلام!
في عدة أيام، هجر صفحتي على الفيسبوك أكثر من مئة شخص، وتلقّيت عشرات الرسائل الهجائية، بينما كان الهجاء يأتيني من المعارضين أيضاً على الهواء مباشرة، من خلال مكالماتهم الهاتفية، وكنت حينها أتذكر صديقي وزميلي في جامعة البعث جمال طلاس، وهو يقول مازحاً: «رأيك سيجعلك مثل فقراء اليهود لادين ولادنيا»!!، وكنت أضحك في سري لقوله هذا وأقول: الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي جعلني أستطيع وبالهمس أن أقول رأيي في مأساة وطني الحبيب، وأتجرأ على جعل كلّ هؤلاء يحتجون ويزعلون؛ فليس في رأس أحدهم من حلّ للمشكلة إلا دحر الآخر وسحقه، حتى يبقى هو، وأنا أريد بقاء الجميع، متكاملين في وطن واحد، وأدّعي جهاراً نهاراً أنني أعرف الحلّ!.
كنت، كما ذكرت سابقاً، قد قدَّمت ورقة حلّ في مؤتمر الحوار الوطني في حمص، ووزعت الورقة على المؤتمر، وكان هدفي الدفاع عن أسلوبي في الحلّ، وهو تدخل طرف ثالث في الأزمة غير ذي ماض استعماري، ليرعى مؤتمراً سورياً جامعاً شاملاً للحوار الوطني.