الأيام "الفلسطينية"- الزمن المفقود

 

حمل القرن الأخير في جعبته رغبة عارمة للناس في كل أنحاء العالم كي يكتشفوا تاريخهم، وتبدى هذا الاهتمام في قيامهم بإنشاء المتاحف والمعارض للحفاظ على فترات يعتقدون في مدى أهميتها في تشكيل حياتهم الحاضرة.

ولذا أُنشئت المؤسسات الثقافية القائمة على العناية بكل ما يمكن جمعه في النطاق المعني، واستحدثت مكتبات ضخمة للصور والأفلام والكتب، بما في هذا ما يدخل في نطاق الشبكة العنكبوتية.

والغريب هو ردة الفعل التي حدثت لدينا، حيث تنمحي المطالعة وقراءة التاريخ بمعناه الموضوعي الخالي من التعصب لجماعة ما، وحيث تنعدم المتاحف أو تكاد، إذ لجأ الناس في بلادنا إلى رسم تاريخ موازٍ للتاريخ الأصلي، يتمثل فيما يشاهدونه في المسلسلات التلفزيونية والصور المرافقة لها.

ومن هنا تجلت حالة الخشوع التي تخيم على مشاهدات جماعية لمسلسلات معينة. فنجد أن جمهورنا يذهب لمشاهدة "باب الحارة" من باب الاندفاع العاطفي الكامل، وكأنه يسترد تاريخاً حُرم منه، فالصورة حتى لو كانت عرضة لمئات التحريفات والتغييرات فإنها تؤدي الغرض؛ ألا وهو البحث عن الزمن المفقود.

وقد كان هناك من علّق قائلاً بأن الناس يتحمسون لمشاهدة الانتصار ذاته على الأعداء في كل جزء جديد من مسلسل "باب الحارة"، لأنهم يسعدون بإعادة العمل وتكراره لرغباتهم التي يحلمون بها، فكل شيء عندنا عاطفة في عاطفة، ولا يخطر ببال أحد أن تسجيل تاريخنا المعاصر يجب أن يصبح من أهم أولوياتنا. صحيح أن الإهمال ذاته موجود في العالم العربي أيضاً، لكنه يكتسب معناه عندنا أكثر؛ هنا في فلسطين، حيث يزداد وقع التاريخ علينا حين لا يتم حفظه ومواجهته عبر متاحف ودوريات أو مجلات تقود مناظرات أو مناقشات أو دراسات، أوعبر دعم مؤسسات مختصة تقوم على تفكيكه وإعادة إحيائه وطرحه بين الناس كي يصل إليهم. علينا، إذاً، أن نقوم بهذه المهمة الضرورية كي لا يصير الأمر هروباً في هروب، وتكاسلا ًعن المواجهة، أو رغبة في الهرب إلى الأمام. علينا أن نقيم المتاحف، وأن نشجع تأسيسها، وأن نناقش تاريخنا الحديث من جديد، وأن ننقل هذا النقاش إلى الجامعات والمعاهد ومناهج المدارس، كي لا نكتفي بالنظر إلى النفس كضحية، لأن هذه الشفقة تمثل أرحم الحلول وأخفها وقعاً علينا. وربما علينا أن نحاول محو خاتم الإعاشة من أرواحنا، وقطع حبال الخيم التي تربط نفوسنا إلى وتد المؤقت الذي نهب حياتنا. فنحن نتعامل على أن كل شيء مؤقت، وأن لا ضرورة لمراجعته ما دمنا نعيش زمن المعاناة. ونتعامل مع المكان الثابت كأنه مجاز للمكان الأصلي، ونكرس أسطورة بيننا وبين أنفسنا عن تفوق مزعوم لأنه سبق أن بنينا بالعلم وبالعمل دولاً عربية، في الحين الذي نعاني فيه الآن من نقص المبادرات، وغياب التطوع، وامحاء أريحية البذل والعطاء في زمن امتداد المؤسسات غير الحكومية التي تُعلّم الناس أنه من الضروري القبض والدفع مقابل أمور يجب القيام بها تطوعياً. والعمل الجماعي لدينا غير مرحب به لأن الفرد تعلم باستمرار أن عليه أن يثبت تفوقه الشخصي على حساب الجماعة، ولذا نهرب من رؤية تاريخنا الحقيقي، ولا نريد مواجهته أو التطلع إليه، ونرحب بتكرار المسلسلات ذاتها إلى حد الملل والإحباط، بحيث يمكننا أن نتوقع أن "باب الحارة" سوف يصل إلى جزئه الألف بالتأكيد، لأننا نركض إلى فضائيات معينة أو شاشات مسلسلات تعيد وتكرر موضوع النصر المجيد والانتصار البراق مثل حكاية إبريق الزيت. أي تعاود تمثيل التاريخ مراراً وتكراراً بما يوافق رغباتنا المحبطة.


متى ستؤخذ مسألة إقامة المتاحف التي تؤرخ صورتنا وحياتنا بعيداً عن هذا التكرار المقيت من جديد، ومتى ستمتلك جامعاتنا الشجاعة والقدرة على طرح الجديد وتحدي الكسل الفكري الذي صار سمة أساسية في حياتنا العامة والخاصة؟ ومتى يمكن لنا أن نرى أفواجاً من الطلبة وهم يناقشون ما شاهدوه في أفلام الثورة الفلسطينية الأولى، أو يعودون إلى لقطات سينمائية أرشيفية عن فلسطين؟ ومتى يمكن لهم معاودة مشاهدة مقابلات إميل حبيبي وتوفيق زياد وكافة مبدعينا ومفكرينا الراحلين؟
حقيقة! علينا أن نحلم بأرشيفات فلسطينية، عربية، عالمية، نشاهد فيها صورتنا كما هي دون أن نقوم بدورنا المأثور بأن نكون المساكين الذين ينتظرون رمضان كل عام كي يحن عليهم عمل تجاري ما بأن يروا ظل صورتهم. نريد الصورة، ولا نريد الظلال، نريد أن لا نتكئ على كسل المخيلة والروح، بل على نشاط القلب والعين. نريد أن نرى فلسطين، سيدة البدايات والنهايات، كما قال شاعرنا الكبير الراحل محمود درويش.

 

 الايام - ليانة بدر