الإحباط الأميركي والخطط ضد إيران

 

منذ سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية وحلف وارسو، ثم منذ اطلاق يد حلف شمال الاطلسي في اوروبا وبعد ذلك في جنوب آسيا واخيرا في الشرق الاوسط انقضى نحو عشرين عاما.. وكان المفترض ان تكون تلك الاعوام العشرون هي العصر الذهبي للولايات المتحدة باعتبارها الدولة العظمى الوحيدة المتحكمة في مجريات ومسارات السياسة الدولية.

فهل تطابق الواقع الدولي مع هذا الافتراض؟ هل فعلا تعيش الولايات المتحدة عصرها الذهبي. هل انتهى تاريخ الصراع بين الرأسمالية ونقيضها؟ بوجه خاص هل جاء الربيع العربي ـ ربيع الثورات العربية ـ مؤكدا لهذا الافتراض مبرهنا على ان الولايات المتحدة حققت انتصارها وانتصار نظامها بصورة نهائية؟

ان نظرة موضوعية الى الواقع الراهن في عالم اليوم بعد انقضاء ستة اشهر على انطلاق ثورتي تونس ومصر كفيلة بتأكيد البرهنة على ان الولايات المتحدة وتوابعها اوروبية واطلسية وشرق اوسطية تعيش ـ على النقيض من هذا الافتراض ـ حالة غير مسبوقة من الاحباط الاستراتيجي والسياسي والاقتصادي.

وتؤكد هذه النظرة ان ربيع الثورات العربية جاء في وقت غير متوقع وغير ملائم للولايات المتحدة. جاء في وقت هزيمة عسكرية بطيئة لها في افغانستان تحكم عليها بانسحاب تدريجي وليس انسحابا سريعا منها، بعد انتصار عسكري وهمي في العراق لا تزال تتردد فيما اذا كانت تنسحب منه ام تصر على البقاء فيه. بل الاهم من ذلك، ان ربيع الثورات العربية ـ الذي انتزع من يد الولايات المتحدة اثنتين من اغلى قواعد النفوذ الاستراتيجي والاقتصادي والمخابراتي في المنطقة، ان لم نقل في العالم، ونعني النظامين المخلوعين في مصر وتونس ـ تفجر في وقت كانت الولايات المتحدة مشغولة فيه باكبر مخططاتها لتفجير صيف حار الى حد الالتهاب في ايران.

 قد لا نذهب الى حد القول بأن ثورات الربيع العربي ارتبطت سببيا بهذا الفشل الاميركي في ايران، لكن الامر المؤكد ان الاحباط الاميركي في ايران تزامن مع هبات الثورات العربية فضاعف من خيبة الامل الاميركية. واذا وضعنا في حسابنا حقيقة ان اسرائيل كانت متواطئة في المحاولات الاميركية لاختلاق تمرد في ايران فان الاحباط شمل اسرائيل ايضا.

واسرائيل لا تزال مستعدة ـ يبدو من صراخها المستمر ـ لتوريط الولايات المتحدة في حرب ضد ايران. فحتى ايام قليلة كانت اسرائيل تصف ايران بانها الخطر الوحيد عليها اي على اسرائيل. وهو تصريح يكتسب معناه من استمرار الضغط المزدوج الاميركي ـ الاسرائيلي على مصر الثورة للامتناع عن اعادة العلاقات الطبيعية مع ايران. وهو ما كان قد بدأ فعليا في الايام القليلة التي قضاها نبيل العربي وزيرا للخارجية في حكومة مصر الثورة.

الاحباط الاستراتيجي والاقتصادي والسياسي، يتضاعف باطراد مع حجم الدولة التي تعاني منه. وفي حالة الولايات المتحدة فانه احباط مزدوج لان الحليفة الاولى اسرائيل تصر على الضرب على هذا الوتر من خلال دوائر نفوذها داخل مؤسسات السلطة الاميركية التشريعية والتنفيذية على السواء.

وحتى الآن فان الولايات المتحدة تبدو اكثر انشغالا عن خطتها المشتركة ضد ايران بمحاولاتها توجيه ثورات الربيع العربي في اتجاه الانضواء تحت ألوية الرأسمالية الاميركية، وبالتالي تحت احكام السياسات الاميركية داخليا وخارجيا.

والتركيز على هذا الجهد بالنسبة لثورة مصر بالذات امر مفهوم من خلال اهمية مصر القومية والاقليمية ومن خلال ما تعنيه هذه الاهمية من تأثيرات على الثورات العربية ما تفجر منها وما هو مرشح للتفجر خلال اسابيع او شهور او ربما اكثر.

وليس خافيا، ان احد الاهداف الاميركية من هذا الاهتمام الاميركي الزائد بثورات الربيع العربي هو هدف مزدوج قد يبدو للوهلة الاولى هدفين. هذا الهدف يرمي الى تحويل الثورات العربية الى حصار مضاد على ايران، وفي الوقت نفسه تحويلها الى حصار حماية للمملكة العربية السعودية التي تخشى الولايات المتحدة «سقوطها» في يد ثورة عربية تحررها من النفوذ الاميركي ومن التطلعات التي اخذت تتكشف اخيرا نحو علاقات اوثق مع اسرائيل.

هذا الهدف المزدوج ـ الذي يهتم بإيران من ناحية ويرمي الى افتعال ثورة فيها، ويهتم بالسعودية ويرمي الى صيانتها من تأثيرات الثورة العربية من ناحية اخرى ـ يتحول يوما بعد يوم الى الشغل الشاغل لاميركا.

والمشكلة لم تعد مشكلة احباط نتيجة لخروج سيناريوهات الاحداث الفعلية عن سيناريوهات الخطط الاميركية. المشكلة اعقد لان الولايات المتحدة تجد نفسها مضطرة للسير في طريقين متناقضين احدهما يرمي الى تفجير ثورة، وهذا موجه ضد البحرين لصالح الحكم السعودي والثاني يرمي الى خنق ثورة قبل مولدها وهذا موجه ضد السعودية.

وكلتا الخطتين تتطلب من اميركا تحركا مختلفا في مواقع الشرق الاوسط المختلفة. فهي من ناحية تريد نفوذا ملكيا سعوديا على مصر، يبدأ بنوع من الهيمنة الاقتصادية لا تستطيع الولايات المتحدة ان تسعى اليه بنفسها، بسبب ازمتها الاقتصادية.

وتتصور واشنطن ان بالامكان دعم النفوذ السعودي في مصر لحجب تأثيرها الثوري على مناخ السعودية السياسي والاجتماعي. ولقد كشف خالد ابو الفضل العضو السابق بلجنة الحريات الاميركية (في حوار مع صحيفة «المصري اليوم»- 18/7/2011) ان اميركا تفضل الحكم العسكري او الوهابي لمصر.. وان السعودية حذرت واشنطن من عودة القاهرة الى قيادة حركات التحرر بالمنطقة. وهذا تصريح بالغ الاهمية لا تخفى خطورته من اي من جانبيه.

وتتصور واشنطن في الوقت نفسه ان بالامكان استخدام ربيع الثورة العربي كعامل مثير في ايران في الوقت نفسه الذي تعمل فيه بكل قواها لاضعاف الثورة العربية حيثما كانت.

ولا يبدو ان بامكان الولايات المتحدة ان تفجر ثورة ضد الثورة في ايران، فان الدرس الاساسي للمفاجأة الاميركية المحبطة هو تبادل التأييد بين الثورات العربية وثورة ايران. لقد رحبت ايران بربيع الثورة العربي اطمئنانا منها الى ان الثورة العربية تتجه بطبيعتها الى التخلص من النفوذ الاميركي وفي الوقت نفسه مناوأة الزحف الاسرائيلي على مصر وتونس.

انما يبدو بوضوح ـ حتى للمصادر الغربية، وكان آخرها المسؤول السابق في المخابرات الاميركية روبرت باير (بحسب ما نقلت عنه صحيفة «يديعوت احرونوت» الاسرائيلية قبل ايام ـ السبت الماضي تحديدا) ـ ان اسرائيل تنوي شن هجوم على ايران خلال فصل الخريف المقبل، ما من شأنه ان يزج بالولايات المتحدة في حرب ضخمة جديدة.

وتحدث باير عن شخصيات امنية اسرائيلية حذرت من تمسك رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نيتانياهو بالاقدام على هذا العمل، وفي مقدمتهم رئيس الموساد السابق مائير داغان. ومعنى هذا ان اسرائيل تعتبر ان المغامرة بمهاجمة ايران من دون الحصول على موافقة مسبقة من واشنطن تستحق ان تقدم عليها مهما كانت نتائج هذا التوريط لاميركا في حرب اتضح انها لا تريدها.

ومعنى هذا ان اسرائيل يمكن ان تقدم لحسابات خاصة بها على افساد المخطط الاميركي الرامي الى تفجير ثورة في ايران ومنع ثورة في السعودية. ومعنى هذا ايضا ان اسرائيل لا تبدي اهتماما بردود الفعل الايرانية العسكرية ردا على هجومها وذلك بالرد عليه بشن هجمات صاروخية ساحقة ضد الاهداف الاميركية المنتشرة في منطقة الخليج في صورة قواعد واساطيل حربية. الامر الذي انذرت ايران بوقوعه اذا تعرضت لهجوم سواء من اسرائيل او من الولايات المتحدة.

وعلى الرغم من استبعاد ان تعمد اسرائيل الى سلوك طريق اللامبالاة بخطط اميركا ومصالحها في الخليج، وان من الممكن ان تكون تصريحات المسؤول السابق في المخابرات الاميركية استمرارا في تهديد ايران بما لا تستطيعه الولايات المتحدة ومن باب اولى لا تستطيعه اسرائيل في مواجهة ايران، فان مثل هذا السلوك الاسرائيلي ليس مستبعدا.

ان اسرائيل لم يسبق ان اظهرت حرصا على عدم المساس بالمصالح الاميركية. ولقد بدا في الآونة الاخيرة ـ بعد ثورات الربيع العربي ـ ان الولايات المتحدة تدير ظهرها للخطر الايراني الذي رافق الحملة الاميركية على ايران طوال الاعوام الماضية، وهو خطر السلاح النووي الايراني، وبدأت تفكر في خطر ايراني من نوع آخر هو خطر «هيمنة ايران على منطقة الخليج». وهو خطر يتفق ـ وفقا للحسابات الاميركية ـ مع الخطة الاميركية المزدوجة لتفجير الوضع الداخلي في ايران واستخدام كل السبل لمنع ثورة عربية في السعودية.

وقد قال جورج فريدمان - الذي يرأس مؤسسة «ستراتفور» المخابراتية الخاصة الاميركية (في 8/7/2011) - في حديث اجرته معه نشرة المؤسسة ان انسحاب الولايات المتحدة المتوقع من العراق يزيد من احتمالات صعود نفوذ ايران وقوتها في الخليج وهذا ما تخشاه الولايات المتحدة الآن اكثر مما كانت تخشى احتمالات حصول ايران على سلاح نووي.

وعلى اي الاحوال فان الولايات المتحدة تريد ان تستمر في احاطة ايران باكبر قدر ممكن من عدم الاستقرار وكأن عدم استقرار ايران يعادل او يعني استقرار السعودية وبقية دول (دويلات) الخليج.

مع ذلك فان الولايات المتحدة نفسها لا تبدو مستقرة على سياسة محددة تجاه ايران او تجاه منطقة الخليج. والامر المتوقع ان تكشف حملة انتخابات الرئاسة الاميركية عن اتجاه قوى المحافظين الجدد نحو الدعوة لحرب ضد ايران بينما سيكون موقف الديموقراطيين اميل الى الاعتدال في رؤية الخطر الايراني.

ومعنى هذا ان مسألة الخطر الايراني والخطر على السعودية ستفرض نفسها على الحملة الانتخابية الرئاسية الاميركية، بل انها قد تلعب دورا رئيسيا في بلورة نتيجة هذه الانتخابات. فاذا ما قررت اسرائيل ان تهاجم ايران في شهر ايلول القادم دون اخذ راي اميركا في الاعتبار فان معنى هذا ان اوراق المناورات الاميركية ستختلط تماما.

وحين لا تكون الولايات المتحدة قادرة على لجم اسرائيل فانها تترك هذه المهمة لايران... بما في ذلك من تداعيات وانهيارات على السعودية وباقي الدويلات الخليجية التي تتطلع من ثقب الباب بانتظار الدخول في علاقات مع اسرائيل.

في هذا الجو الملبد بالغيوم ـ غيوم التهديدات والاخطار والثورات التي لا تزال في مرحلة تقرير المصير ـ لا تزال ثورة البحرين بعيدة عن الانظار بفعل ضغوط غربية لصالح السعودية ـ تشارك فيها اسرائيل ـ لكن في هذا الجو ايضا لا توجد اي ضمانة بان تبقى مشكلة البحرين بحجم البحرين نفسها.

هناك احتمالات كبرى بان تكبر البحرين لتصبح بحجم الخليج بما في ذلك السعودية. وعندئذ سيكون لايران دورها الذي لا غنى عنه كقوة اقليمية لا تمكن ازاحتها من مكانها جغرافيا او استراتيجيا او سياسيا.

ربما لهذا تكتسب فكرة اجراء محادثات ايرانية ـ سعودية حول مستقبل الخليج، وهي فكرة اطلقتها ايران مؤخرا واخمدها الاعلام الغربي، زخما يحتاج الى اقصى درجة من الجدية من جميع المراقبين.

والاهم من هذا ان تبقى فكرة المحادثات الايرانية ـ السعودية خاصة بهما بلا تدخل من اميركا (وبالتالي اسرائيل) او من اوروبا او الحلف الاطلسي. والفكرة ـ بحسب ما تردد عنها مؤخرا ـ تحظى بتأييد من قوى سياسية سعودية لها نفوذها. والسؤال الآن: هل تقرر اميركا ترك الشأن الاقليمي للخليج شأنا للخليجيين؟

 

سمير كرم - السفير