الإصلاح بيد وضرب الإرهابيين بالأخرى

لم يعد هناك إلا خارطة طريق واحدة لوضع قطار الأزمة السورية على سكّة الحلول الواقعية والعملية، هي التي أعلنها الرئيس السوري يشار الأسد أمس: المضّي في خطوات الإصلاح بالتوازي مع إعادة الأمن والاستقرار الى البلاد.
بهذا الكلام المستند الى معطيات داخلية وخارجية في آن واحد، يعبّر الرئيس السوري عن ثقة بالمستقبل تميّزها الشفافية والشجاعة. فقد قال الأسد ضمناً إن كل التهديد والوعيد الآتي من كل صوب لن يخيف القيادة السورية أو يثنيها عن المضي في خطواتها الاصلاحية. وهي إذ تلجأ الى منطق القوّة، فلكي تمنع المؤامرة الدولية من القضاء على سورية وخياراتها في المقاومة والممانعة.
وكان الأسد واضحاً أيضاً في تعيين مخارج الأزمة. فالإصلاحات التي تريدها القيادة السورية، ولا يريدها أطراف المؤامرة في الحقيقة، لا يمكن تحقيقها، لا في سوريا ولا في أي بلد آخر تحت وطأة الضغط العسكري. والاصلاح الأهم الذي سيشكّل نقطة تحوّل أساسية في مسار إنهاء الأزمة السورية، هو الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد في 26 شباط الجاري الذي سينهي سيطرة حزب البعث الحاكم على الدولة.
هذه البراغماتية في تفكير الرئيس الأسد ليست وليدة الحدث الأمني السوري. لكنّ التطورات الأمنية والسياسية التي حاولت أن تأخذ الأسد على حين غرّة طيلة الشهور المنصرمة، لم تترك له وقتاً كافياً لمحاكاة مناخات التغيير بما يضمن الحفاظ على تماسك الدولة والمجتمع في وجه غزو أميركي للشرق الأوسط تحت شعارات الحرية والديموقراطية، شعارات لم تجد شعوب المنطقة لها أثراً، لا بعد الغزو الأميركي للعراق وليبيا، ولا في غبار "ثورات" مزعومة شهدتها مصر وتونس واليمن، تبّين بعد حين أنها تمخّضت عن أنظمة موالية لواشنطن.
خارطة الطريق السورية ليست كلاماً في الهواء، وما ستشهده سورية في الأيام المقبلة سيكون مؤشراً حاسماً على صوابية وصلابة خيار الرئيس السوري. ولا بدّ من التنويه هنا الى أن هذا التغيير الدستوري الجريء لم تشهد مثله دول عربية عديدة لا يزال يتحكّم بها ملوك وأمراء وراثيون في السعودية وقطر والبحرين والكويت والامارات.
إن الإصلاحات السورية المنشودة بدءاً من الدستور الجديد، لن يفتح لها الطريق إلا الحسم النهائي ضد البؤر الإرهابية المسلّحة التي أخذت بالتقلّص في مختلف المدن والمناطق السورية أمام خطّة محكمة تتقدم بثبات نحو فرض الأمن والاستقرار تمهيداً لاستفتاء 26 شباط في ظلّ أوضاع أمنية هادئة.
وتتقدم خارطة الطريق السورية مدعومةً بجملة عوامل خارجية مؤاتية من أبرزها:
- تنسيق سوري – روسي تام إلى أبعد الحدود، يعكس دعماً روسياً مطلقاً للقيادة السورية على مستوى الأجندة السياسية والعسكرية، ينشر من حول سورية شبكة أمان إزاء الرياح الخارجية المعادية.
- ظهور علامات ضعف وتراجع في موقف المعسكر الغربي من الأزمة السورية. ولعلّ الاشارة الأبرز في هذا السياق هي التي جاءت من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. فعلى أثر لقائه في قصر الاليزيه مع رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، قال ساركوزي كلاماً يمكن تفسيره بأنه تشكيك في قدرة وصدقّية المعارضة السورية، وتراجع عن تأييدها تأييداً مطلقاً، عندما قال مخاطباً هذه "المعارضات": "نظّموا أنفسكم ووحّدوا صفوفكم.. وأبلغونا بكيفية دعمكم.. ونحن سنقدم لكم المزيد من الدعم...". وعلّق كاميرون بدوره أن بلاده " تعمل بتنسيق وثيق مع الجانب الفرنسي". بعد مرور عام على "إشعال" الغرب للأزمة السورية، يعترف ساركوزي "المقاتل" بأن جهود معسكره لجمع "الموزاييك" السوري المعارض انتهت الى الفشل، رغم مئات مليارات الدولارات التي تمّ إنفاقها من جيوب مشايخ النفط الخليجيين في تصنيع "معارضة" سورية ديموقراطية تفتح للشركاء الأطلسيين الطريق إلى سورية.
- علامة أخرى على هذا التضعضع في موقف الشركاء الأطلسيين أعطاها هذه المرة الأمين العام لحلف شمال الأطلسي أندرس فون راسموسن عندما أكد «أن الحلف لا يعتزم التدخل في سورية كما فعل في ليبيا حتى في حالة صدور تفويض من الأمم المتحدة لحماية المدنيين». لقد تخلّى الشركاء الأطلسيون عن"شماعة" حماية المدنيين في سورية بعد أن كانوا وظفوها بنجاح في الحالة الليبية. واستبعد راسموسن كذلك أي احتمال لمساهمة الحلف في أية عمليات لدعم "ممرات إنسانية" تجاوبا مع ما تطالب به تركيا على وجه الخصوص.
- تأتي أخيراً زيارة نائب وزير الخارجية الصيني اليوم الى دمشق، حيث سيعقد، اضافة الى لقائه بالقيادة السورية، لقاءً مع قيادات المعارضة السورية في الداخل في السفارة الصينية في دمشق. هذه الحركة الدبلوماسية الصينية، مضافةً الى حركة الدبلوماسيين الروس الأخيرة، من وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الى نائبه ميخائيل بوغدانوف الذي وصف "مجموعة أصدقاء سورية" بأنها مجموعة "هواة" هدفهم التدخل عسكرياً في سورية في "انتهاك للقانون الدولي وشرعة الأمم المتحدة"، تعطي تفسيراً إضافياً لتخلّي ساركوزي عن النسخة الأطلسية – الخليجية للمعارضة السورية المصنعة بين باريس واسطنبول.
لقد قطع الروس والصينيون شوطاً هاماً في "تفكيك" المعارضات السورية، وإعادة الإعتبار الى المعارضة السياسية الحقيقية بعد تفليس المعارضة الأخرى، "الأطلسية". ويبدو ساركوزي، سواء تقبّلت كارلا بروني الأمر أم لا، وكأنه بدأ يرضخ لفكرة سقوط نجوميّته التي صنعتها له الطائرات الفرنسية فوق الرمال الليبية ذات يوم.
بشار الأسد ماضِ في تحقيق الإصلاحات بيد، وفي حمايتها من ضربات الإرهابيين وممّوليهم باليد الأخرى.