الإعلام بين عصرين!

 

في ثورة المذياع التي جسدها أحمد سعيد في صوت العرب، وحاولت تقليده عدة عواصم عربية في الهجوم المضاد، كان صوت القاهرة هو الأقوى والأكثر تحريكاً للجماهير المندفعة وراء كل ما تقول القاهرة وتفعل، غير أن انقلاب عبدالكريم قاسم ورفاقه، والاندفاع نحو الثورة الأممية لتستهدف الجيش والحزب أثارا الحروب الإعلامية بين العاصمتين العراقية والمصرية، ولأن الشيوعيين يستمدون نفوذهم من خبرة المعسكر الأممي، فقد اعتمدوا مراسلاً سرياً يزود صوت العرب بكل ما يجري من مظاهرات وسجون، لكن بأسماء المهمشين والمعتوهين الذين يعرفهم رواد شوارع العاصمة العراقية، فوضعوا أبطالاً لقيادة المسيرات، وكان الذهول للعراقيين أن صوت العرب وقع في خطيئة لا تغتفر عندما انقلب العراقيون بعدم تصديق حتى الحقائق التي يذيعها أحمد سعيد أو غيره، وأمامهم الواقع الذي صدمهم..

في تونس كان الحبيب بورقيبة زعيماً وطنياً في الداخل، ومحارَباً في كل بلد عربي يصل إليه عندما يُقابل بالمظاهرات والمنشورات، والتخوين، والسبب أنه في زيارته للأردن في ت لك الموجة القومية طرح في تصريحه الشهير للفلسطينيين، بقبول قرار التقسيم وفق رؤيته «خذ وطالب» وطبعاً كان هذا حكم اتهام حيث أصدر القوميون الناصريون قراراً بعمالته، ولهذا السبب بدأت حرب إذاعية وصحفية بين البلدين، وحدث ما يماثل ما جرى في العراق عن طوفان الشارع التونسي فيما يذيعه في كل مناسبة صوت العرب، بينما المواطن التونسي لم يشهد أي تحرك يذكر، مما دفع بورقيبة إلى وضع (مايكرفونات) ومكبرات صوت في شارعه الشهير تنقل كل ما يذيعه صوت العرب فكانت حرباً مضادة كسبها بورقيبة وخسرها عبدالناصر أمام الحقيقة وصدها..

ما يجري الآن بأدوات التحريك ليس الدعايات المسيّسة للدولة، ومن الغرابة أن تجري الثورة في تونس ثم مصر واللتين كانتا تعتمدان الإعلام الحكومي ليصبح شباب تكنولوجيا التواصل الاجتماعي هو من يشكل الوعي الجديد، والخروج عن كل ما تدفع أو تدافع به سلطتيْ البلدين، ثم يأتي الدور على دول عربية طالما رفعت شعار الثورية وضرورة المواجهة مع الامبريالية وكل من ينتمي لها، ليحجب إعلامها ما جرى في البلدين العربيين الثائرين، ولا يُكتفى بحجب المواقع بل المباشرة بإخراج سجناء والإبداع في فتح المسافات المغلقة مع المواطن، وكلها حالات مختلفة عن سياق السلوك السياسي لما يزيد على نصف قرن، إذ إن المواطن العربي لم يعد محلياً أمام طوفان المعلومات وتدفقها، والفرز بين الصحيح من الكذب..

فالبُلدان التي بدأت فيها مؤشرات التململ ورياح التغيير بدأت إعادة النظر في كل السياسات القديمة، لأن المفتاح السري انتقل من جيوب أجهزة الاستخبارات والمباحث إلى جيوب المواطنين، إذ لم يعد هناك من أسرار عندما كُشفت ملفات القوة العظمى التي عرّاها موقع «ويكيليكس» وجاء الدور للشباب العربي ليقود حركة لم يتخيلها كل من رصدَ وحلل الشارع العربي، فقد انتهت عصور طوتها حقيقة الظاهرة التقنية التي بلورت وعياً غير مسبوق..

عموماً إرهاصات الخمسينيات والستينيات عندما كانت الحرب إذاعية، ووسائل الاحتجاجات المنشورات السرية، أصبحت الأجهزة التي لا تقهر هي وسائل التواصل والتأثير..

 

يوسف الكويليت - الرياض