الاقتصاد الحر والواقع السوري

 

 

حيان فهد مكنـّا. بلدنا


دفعني موضوع تبني الأحزاب السورية الجديدة مقولة: إن سياسة الاقتصاد الحر هي الحل الأمثل للأزمة الاقتصادية السورية الراهنة، لأكتب هذا المقال وأضعه بين أيديكم على أمل أن يكون لما فيه خير ومصلحة بلدنا الغالي سورية.
 

 

سياسة الاقتصاد الحر هي السياسة المتبعة في نظام الاقتصاد الحر  (market economy)الذي هو النظام الاقتصادي لليبرالية (Liberalism). لذلك لابد من فهم كلمة الليبرالية أولاً، حتى يتسنى لنا فهم سياستها الاقتصادية. أصل كلمة الليبرالية مشتق من اللاتينية وتعني الفرد الحر، فهي كنظام اجتماعي وسياسي تقوم على الحرية الفردية المطلقة في الأفكار والمعتقدات الدينية وغير الدينية والانتماءات السياسية وامتلاك الفرد الحق المطلق في فعل أي شيء،
طالما أنه لايخرق القانون أو يسيء أو يلحق الضرر بأفراد المجتمع الآخرين، فإذا أردت أن تشرب الكحول مثلاً، فلك كل الحق في ذلك.
ولكن انتبه، فلا يسمح لك بقيادة السيارة وأنت تحت تأثير الكحول، لأنك بذلك يمكن أن تؤذي غيرك. في ألمانيا على سبيل المثال، تفرض غرامة مالية بحق من يقود السيارة ثملاً تصل إلى 2000 يورو وتُسحب رخصة القيادة منه لمدة تقارب السنة (وهنا لا أقول إن النظام الاقتصادي في ألمانيا ليبرالي، فكلنا يعلم أنه اقتصاد سوق اجتماعي، ولعل أغلبكم سئم من سماع هذا المصطلح، على كل حال أردت أن أعطي مثالا فقط).
وهكذا، فإن الحرية على اختلاف أنواعها مصونة في الليبرالية، وتنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، بمعنى آخر هي حرية مسؤولة.
تقضي الليبرالية أيضًاً بفصل الدين عن الدولة فصلاً تاماً وكذلك الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والقضائية والتنفيذية، وسيادة القانون وتساوي جميع الأفراد أمامه.
أما عن الليبرالية كنظام اقتصادي، فيمثله الاقتصاد الحر، وتقوم سياساته على تحرير الاقتصاد وجعل كل شيء خاضع للعرض (Supply)  والطلب (demand)، فأسعار السلع والخدمات لا تحدد من قبل الدولة كما هو الحال في النظام المركزي (التخطيطي أو الاشتراكي) ولايوجد ضوابط لها سوى آليات السوق بمعنى آخر قوى العرض والطلب، أي أن السعر يتحدد بـتلاقي قوى العرض والطلب ولايحق للدولة التدخل في النشاط الاقتصادي للتأثير على السعر أو لتحقيق العدالة الاجتماعية. 
كما أن سعر الفائدة غير محدد من قبل البنك المركزي، وإنما ناتج عن تلاقي طالبي القروض وعارضيها في سوق الائتمان.
 

 

وحتى الأجور تخضع لقوى العرض والطلب؛ فكلما زاد عرض قوة العمل مثلاً
- مع بقاء الطلب عليها ثابتاً- انخفضت الأجور، وكلما زاد الإنتاج زاد الطلب على قوة العمل.. وبالتالي ارتفعت الأجور.
في ظل العولمة ينطوي اقتصاد السوق الحر على إلغاء كافة القيود في ما يخص تدفق السلع والخدمات ورؤوس الأموال من وإلى الدولة وفتح الباب على مصراعيه أمام الاستثمار الأجنبي المباشر وتقديم كل التسهيلات الجمركية والضريبية له.
دور الدولة يقتصر هنا فقط على التنظيم والرقابة؛ أي وضع السياسات التي تنظم العلاقة بين المتعاقدين من أفراد ومؤسسات ومراقبة التنفيذ السليم لهذه السياسات.
من أهم المتطلبات الضرورية لتطبيق نظام الاقتصاد الحر ونجاحه، توافر الشفافية والمنافسة وعمل الدولة على ضمان ذلك من خلال تفعيل دور أجهزة حماية المستهلك وحماية المنافسة والملكية الفكرية ومنع الممارسات الاحتكارية، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، يتوجب على الدولة تخفيض الإنفاق ورفع الدعم الحكومي عن السلع التي تشكل عبئاً على ميزانيتها، بالإضافة إلى مكافحة الهدر الحكومي والفساد في مؤسساتها.
يؤخذ على هذا النظام الاقتصادي أن تطبيقه يزيد الفجوة بين الفقراء والأغنياء؛ فالفقير يزيد فقره والغني يزيد غناه، هذا الأثر يظهر جلياً في السنوات الأولى للتطبيق، وخير مثال على ذلك  التجربة المصرية.

 

كما أن ارتفاع الأسعار وتقلبهـا وانخفاض القوة الشرائية للعملة نتيجة تعويمها وما يرافقه من آثار تضخمية، هو ما يصبغ المرحلة الأولى للتطبيق (لبنان مثلاً). عدا عن ذلك، فإن المنافسة الشرسة التي تتعرض إليها منتجات الشركات المحلية الصغيرة بسبب دخول الشركات عابرة القارات المتعددة الجنسيات، سيؤدي حتماً إلى إفلاسها وخروجها من السوق، الأمر الذي يترتب عليه إضعاف الإنتاج المحلي وتحول العاملين في هذه الشركات إلى عاطلين عن العمل.
ومن جهة أخرى، تتأثر الدولة التي تطبق هذا النظام بالأزمات المالية العالمية بشكل كبير جداً، لأن اقتصادها مفتوح أمام الاقتصاد العالمي، ما يسهل عملية انتقال العدوى المالية لها عن طريق قنوات التبادل التجاري المختلفة مع اقتصادات الدول التي تعاني من الأزمة.
على المستوى الاجتماعي، تسود ثقافة المصلحة الفردية وترتفع معدلات البطالة وتنعدم الخدمات الاجتماعية والصحية المقدمة من الدولة.

إلا أن ما يميز هذا النظام هو حرية القرار الاستثماري؛ فكل فرد في المجتمع يحق له افتتاح أي مشروع يريده بالإضافة إلى حرية التعاقد بين الأفراد والمؤسسات دون تدخل الدولة أو أجهزتها بذلك.
سأحاول انطلاقاً من متطلبات تطبيق نظام الاقتصاد الحر وآثار تطبيقه أن أسقط ماتقدم على واقع الاقتصاد السوري وأن أجيب عن سؤال بات على لسان العديد من السوريين: هل اقتصاد السوق الحر هو الحل لما نحن فيه من أزمة اقتصادية؟
سأبدأ بالمتطلبات وعلى رأسها الشفافية والمنافسة. حتى تتوافر الشفافية في أحد المجتمعات، يجب أن يتمتع أفراد هذا المجتمع بالحد الأدنى من الشفافية التي تجعلهم قادرين على فهم المصطلح، هذا على مستوى الأفراد. أما على مستوى الشركات والمؤسسات، فلا يكفي هنا الفهم فقط، وإنما يجب أن يقترن بالممارسة العملية. على فرض أن غالبية السوريين كأفراد  يفهمون هذا المصطلح لا بل يمارسونه أيضاً- وهذا مالا أعتقده -  إلا أن الحال ليس كذلك بالنسبة إلى أغلب الشركات السورية التي تقدم إلى مديرية المالية المختصة مثلا نسخة مصغرة ثلاث أو أرْبع أو حتى خمس مرات عن ميزانيتها الحقيقية، من أجل التهرب من ضريبة الأرباح، ما يتعارض تماما مع أبسط  قواعد الإفصاح المالي والمحاسبي الذي ترتكز إليه الشفافية.
أما بالنسبة إلى المنافسة في سورية، فكلنا يعلم من يتنافس مع من. إذاً، أهم شروط التطبيق غير متوافرة. وأما أجهزة حماية المستهلك، هذه الأجهزة فشلت فشلاً ذريعاًً خلال الأشهر الماضية، وتبين أنها نفسها بحاجة إلى حماية، فكيف ستستطيع منع الممارسات الاحتكارية؟ وبخصوص تخفيض الإنفاق ورفع الدعم الحكومي سيترتب عليه عواقب لايمكن التكهن بها، في وقت تعاني فيه آلاف العائلات السورية  التشرد والجوع.
وأخيراً مكافحة الهدر الحكومي والفساد في مؤسسات الدولة ستبقى حكاية قديمة جديدة عمرها من عمر ستّك وستي، ويتحمل المواطن نصف المسؤولية تماماً كما الدولة، لأن الفساد - من أسف- بات جزءاً من مكونات دم المواطن السوري مثله مثل البلازما والكريات الحمر والبيض.
بعد هذا السرد، يتبين لنا أن شروط التطبيق غير متوافرة ولن تتوافر في المستقبل القريب ولا حتى في غضون عدة سنوات.
سنفترض جدلاً أن  القدرة الإلهية تدخلت وأصبح كل شيء جاهزاً للتطبيق، ولكن يبقى السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن لسورية تحمل الآثار السلبية الناتجة عن التطبيق، خاصة في المرحلة الأولى؟
إن نسبة كبيرة من السوريين يعيشون دون مستوى خط الفقر (دولاران للفرد في اليوم الواحد)، إلا أنهم في ظل نظام الدعم الحكومي الحالي للعديد من السلع قادرون على متابعة الحياة.
في نظام تكون فيه الدولة غير مخولة التدخل من أجل إعادة توزيع الدخل القومي لمصلحة الفقراء (أصحاب الميل المرتفع إلى الاستهلاك) وضد مصلحة الأغنياء (أصحاب الميل المنخفض للاستهلاك) وفي ظل ندرة الموارد ولامحدودية الحاجات، سترتفع الأسعار وسيراكم الأغنياء مزيداً من الثروة على حساب الفقراء الذين ربما سيعانون الجوع.
 وغير ذلك كيف لشركاتنا المحلية التي في وقت من الأوقات لم تكن قادرة على منافسة الشركات التركية؛ كيف لها أن تنافس الشركات العالمية التي تهدف إلى غزو أسواق جديدة مهما كلف الثمن؟
أنت عزيزي المستهلك، وباعتبار قراراتك عقلانية تعتمد على تعظيم المنفعة هل ستشتري سيارة شام التي ستكلف ربما أكثر من الرينو، وربما - هذا افتراض فقط - أقل جودة منها؟
في ما يتعلق بسوق الأوراق المالية، الذي يعتبر بالنسبة إلى كل اقتصاد بمثابة القلب للجسم، إن تحرير الاقتصاد يقتضي فتح سوق الأوراق المالية، أمام رأس المال الأجنبي. سوق دمشق للأوراق المالية سوق حديث النشأة، والمنتجات المالية المتداولة فيه عبارة عن أسهم وسندات (أي لا يوجد منتجات مالية معقدة كالصناديق الاستثمارية وصناديق المؤشرات المتداولة والشهادات وغيرها)، عدا عن ذلك فإن الشركات المدرجة في مؤشر سوق الأوراق المالية السوري (DWX) هي عبارة عن شركات حديثة العهد لا يشهد لها بقوة المركز المالي، لذلك غالبا مايكون استثمار رأس المال الأجنبي في أسواق كهذه قائماً على المضاربة لا أكثر ولا أقل، ولذلك مع أول هزة يتعرض إليها السوق، يسارع هذا الرأسمال (الجبان كأي رأسمال آخر) إلى الهروب مساهماً في هبوط حاد لمؤشر السوق.
كما أنه عند حدوث أزمة مالية في أسواق المال العالمية، فإن الخاسر الأول هو السوق الصغير الناشئ والمندمج بالاقتصاد العالمي.
بخصوص سعر الصرف، فهو مُعوَّم في الاقتصاد الحر، أي شأنه شأن السلع والخدمات يتحدد وفقاً لآليات العرض والطلب. لاتزال قابعة في الذاكرة تجربة البنك المركزي السوري في محاولة منه للتحكم بسعر الصرف الأجنبي منذ أسابيع، حيث إنها أثبتت أن تعويم الليرة - على الرغم من أنه كان تعويماً مداراً- كان تجربة اعتباطية، فاشلة لم تحقق إلا المزيد من التدهور في سعر صرف الليرة.
فلنا أن نتصور حجم الضرر الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في حالة التعويم الحر لليرة والذي يقتضيه التحول إلى الاقتصاد الحر. 
مما تقدم، أستطيع أن أقول لكل حزب يتبنى مقولة “سياسة الاقتصاد الحر هي الحل الأمثل للأزمة الاقتصادية السورية الراهنة”: روق شوي، روق أخي، روق. إن ذاكرتنا لاتزال حُبلى بـالمقولات الدردرية التي بقيت على مدى سنوات مقولات فقط. وللأمانة العلمية العطل ليس في اقتصاد السوق الاجتماعي، العطل في من درْدَرَ اقتصاد السوق الاجتماعي وجعله حبراً على ورق من دون تنفيذ ومن دون تقييم للأداء.
نرجوكم- نحن الشعب السوري- نرجوكم لاتجعلوا سوريتنا حقل تجارب اقتصادية جديدة.
رجاء برسم المسؤولين.
أنا هنا لست ضد الاقتصاد الحر، ماعاذ الله؛ فهذا كفر اقتصادي، لأن الاقتصاد الحر كالغربال لا يبقى فيه إلا الكفء، وهذا مايعود بالنفع على المجتمع ككل، ولكن على المدى الطويل، وبحاجة إلى فترة تحضيرية يجب أن تدرس بعناية شديدة.  تحفظاتي على التوقيت فقط.
يوجد مقولة في البورصة تقول” لايكفي فقط أن تختار (Selecting) الورقة المالية الجيدة التي ستشتريها أو ستبيعها، إنما يجب عليك أن تختار التوقيت المناسب (Timing) للشراء والبيع كي تحقق غايتك المرجوة”. إن التفكير في التحول إلى الاقتصاد الحر في المرحلة القادمة هو خطوة نحو الانتحار، إن لم نقل هي الضربة القاضية التي ستجهز على الاقتصاد السوري.
فهي تشبه إلى حد كبير وضع ملاكم أمضى آخر عشر سنوات من حياته في تجريب أنواع الدخان المختلفة أمام أعتى الملاكمين الذين أمضوا حياتهم في التدريب على كيفية ترك الخصم يلكم حتى ينهك نفسه بنفسه لكي يفوزوا هم، ودون عناء، بالضربة القاضية.
وأخيرا، الاقتصاد السوري بحاجة إلى خطوة أولى قبل التفكير في أي تحوّل وهي دعم الإنتاج والتوجه نحو تنمية الصناعات الخفيفة والمتوسطة والثقيلة، لأن ذلك من شأنه تخفيض البطالة وتحقيق قيمة مضافة حقيقية ورفع الأجور وزيادة الصادرات وبالتالي المساهمة في رفد خزينة الدولة بالقطع الأجنبي وتزويد سوق الأوراق المالية بشركات إنتاجية تدخل في مؤشر السوق، وتسهم في الحفاظ على توازن السوق وجذب الرأسمال الأجنبي بغرض الاستثمار الحقيقي وليس فقط المضاربة، ويجب أن تأخذ هذه الخطوة وقتها الكافي بعيداً عن العقليات القديمة التي أدير بها الاقتصاد سابقاً كما أن التقييم
المستمر للأداء يعد أحد أهم  شروط نجاح المرحلة القادمة.