الاقتصاد والربيع الفلسطيني

الاقتصاد الفلسطيني هو من بين اكبر التحديات لمستقبل الدولة، وذلك لسببين ، أولهما : إن الاقتصاد هو دعامة الدولة في المرحلة المقبلة، وثانيا: انحياز بعض المواقف الدولية السياسية للموقف الإسرائيلي، وبالتالي عدم ضمان تدفق المساعدات المالية للدولة المقبلة .
لكن على المدى القصير، هناك تحديات كبيرة قد تعصف بالاستقرار الاقتصادي العام، مما يتطلب وقفة تقييم سريعة ومعالجات فورية. ولعل أبرزها التراجع النسبي في بعض المساعدات الدولية، وما شهدنا أخيرا من تأخير في دفع الرواتب لموظفي القطاع العام ، ناهيك عن ارتفاع الأسعار المستمر والذي ساهم جليا في انخفاض القوة الشرائية للمواطن. فإذا حدّت المنحة المالية السعودية السخية من التراجع أو التأخير في دفع الرواتب، لكن الالتزامات المالية الفورية التي من المفترض إن تدفعها الحكومة للشركات والالتزامات المتعلقة بالمقاولين ليست متوفرة، وبالتالي فان المشهد سيعود إلى ما قبل قدوم المنحة.
حري بالحكومة أن تضع سياسات إستراتيجية في مناطق الدولة الفلسطينية لبث الحيوية في المناخ الاقتصادي من خلال استغلال الربيع العربي وتوظيفه اقتصاديا لخدمة العملية التنموية. إننا بحاجة إلى وقفة ومراجعة لنقاط القوة والضعف في الاقتصاد الفلسطيني، فلا أحد ينسى أن دخول بعض المستثمرين إلى مناطقنا تحت غطاء تشجيع الاستثمار الأجنبي قد ساهم في إلحاق الأذى بالتنمية الاقتصادية في المنطقة، من خلال حصول البعض على حوافز وتسهيلات مبالغ فيها، خصوصا في المجال المصرفي. فهمّ المستثمر هو تحويل الأرباح إلى الخارج .
في الفترة الأخيرة عشنا- للأسف- ما يسمى بكذبة الاستثمار الأجنبي ، فهذا يتناقض مع مبدأ جلب الأموال من الخارج وتشغيل العمالة المحلية واستخدام مدخلات إنتاج وطنية، مما جعلنا نعاني منه على صعيد الاستثمار؛ فسياسية الانفتاح من دون ضوابط أفرزت آثارا سلبية على الاقتصاد الوطني بشكل عام وعلى معيشة المواطنين والذين باتوا أمام إغراء المواد الاستهلاكية لهم في الأسواق، المليئة بما لذ وطاب من السلع، مما جعلهم يتهافتون على شرائها حتى لو كان ذلك بالدين أو عن طريق البنوك.
لم يعد المواطن الفلسطيني اليوم يفرق بما هو أساسي أو كمالي في إنفاقه، فالكل بالنسبة إليهم سواء، وإلا كيف نفسر وجود معارض للسيارات المستوردة والتي أصبحت تنافس محلات البقالين!
إن دخول الأفراد لم تتناسب وحالة النمو الحاصلة في الإنفاق عل العكس تماما فقد كانت الموجات المتتالية لارتفاع الأسعار تمتص فوائد الزيادة البسيطة على الدخل وباتت سلة المواطنين الاستهلاكية اليوم متنوعة أو مشوهه بالأصح. وما زالت صادراتنا الوطنية التي نتحدث عنها ضئيلة جدا ولا تتناسب وحجم ما نتحدث عنه. أما الصناعات الوطنية فقد كانت كانت على الدوام ضحية الإهمال من قبل بعض السياسيات الحكومية والتي دفعت إلى الاستيراد كحلّ بديل، دون أدنى إجراءات احترازية لتنمية وتطوير القدرة التنافسية للصناعات الوطنية التي دفعت ثمنا كبيرا .
إن الموازنة تعاني من عجز مالي غير مسبوق منذ نشوء السلطة، وهذا ما صرح به القائمون على وزارة المالية؛ فالوضع بات مقلقا في الوقت الذي ارتفعت فيه الفجوة بين الإيرادات المحصلة والإنفاق بنسب كبيرة مقلقة، وأن جزءا من المشاريع الكبرى التي من المفترض العمل عليها قد تأخر. من ناحية أخرى ورغم أن الحكومة عملت أحيانا بنجاح على تشجيع الاستثمار في القطاع الخاص، فعدلت قوانين الضرائب والجمارك ، وأصدرت لائحة تنفيذية للإجراءات الجمركية، وأصدرت قانون ضريبة الدخل الجديد، إلا أن ذلك ليس كافيا، إن لم يقابل بنمو حقيقي وزيادة في خزينة الدولة .
إن من جملة الحلول التي قد تجعل الاقتصاد الفلسطيني يخرج من الانطباع السلبي حاليا، ضرورة وجود فريق اقتصادي وزاري حكومي موحد الرؤية تجاه القضايا الرئيسية، ووضع الكثير من الخطط والقرارات، وحصر ما نجبيه من إيرادات محلية من ضرائب ورسوم من جميع مرافق السلطة، وكذلك ما يأتي من مساعدات دولية. فمثلا ما يأتي من الصناديق العربية لمؤسسات في مناطق السلطة غير موجود ضمن الإيرادات، مما يشكل خلل في الموازنة العامة. وهذا يتطلب أيضا حصر النفقات الكلية، من خلال لجنة موازنة تضم خبراء من مختلف القطاعات وليس حكرا على فئة معينة. قد يخرج الاقتصاد الفلسطيني من أزمته الراهنة ويصبح اقتصاد دولة ويصبح سليما معافى إذا عملنا على تنفيذ النظرية الاقتصادية بالشكل السليم، بالاستفادة من العلاقات الإستراتيجية والتي تتمتع بها السلطة مع الدول المانحة، حيث يجب فتح قنوات اقتصادية معها تقوم على تصدير المنتجات الفلسطينية إليها بأسعار جيدة، واستيراد حاجاتنا ومنها البترول بأسعار منخفضة. فلا ينبغي ترك فلسطين دون مساعدة في مواجهة تداعيات أية أزمات قد تؤدي لزعزعة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي أيضا. وهذا كان واضحا من خلال الدعم السعودي السخي.
من المفترض أن تعي الحكومة جيدا أن تعاملاتنا الاقتصادية مرهونة بمدى تطبيق مبادرات الإصلاح المحلية، والتي ترتكز على إحداث تعديلات مهمة في الادراة العامة في المؤسسات الحكومية وخلق جيل اقتصادي فني يفكر بالتحديث بعيدا الممارسات السلطوية المستبدة. إن فعلنا ذلك ستتدفق الاستثمارات الأجنبية الصادقة، والتي هدفها ضخ الأموال وليس سحبها، وكذلك ستتدفق المساعدات الخارجية في حال حققنا المزيد من الانجازات؛ فالسياسية الاقتصادية التي يجب رسمها حالياً لا بد أن تنادى بسياسة جديدة وهى سياسة المدى البعيد، لإرضاء المتطلبات الاقتصادية العصرية والاجتماعية. لقد حان موعد الربيع الفلسطيني والذي من اشتراطاته بذر بذور اقتصادية صالحة ليتسنى لنا قطفها في موسم قريب!
محمد طه سالم - القدس