الاكذوبة اولا

بعض الناس يعتقدون أن الرحمة لا مكان لها في النظام الطبيعي، لأن النظام الطبيعي برأيهم يقوم على أساس الضرورة فقط، والرحمة تتناقض مع نظام الضرورة، لهذا يحلو لبعض المفكرين أن ينظروا إلى الرحمة بوصفها أمراً ينتمي للعالم ما فوق الطبيعي.
تقول الكاتبة الإنجليزية جورج إليوت في روايتها (آدم بيد): «نحن البشر نسلم أنفسنا لرحمة اللـه، إلا أننا لا نظهر أي رحمة إزاء بعضنا». وأنا على يقين أن المجتمع الذي يخلو من الرحمة هو أسوأ من الغابة بكثير.
قبل مدة أرسل لي أحد الأصدقاء مجموعة لقطات للمصور الفوتوغرافي ميشيل دينيس هوت التقطها في منطقة مساي مارا في كينيا. يقول ميشيل: إنه قد ذهل من الوقائع التي سجلتها عدسته. يتابع ميشيل في لقطاته ثلاثة فهود (تشيتا) انفصلت عن أمها عندما بلغت من العمر سنة ونصف السنة. ومن المعروف أن التشيتا هو أسرع الحيوانات الأرضية على الإطلاق، حيث تصل سرعته القصوى إلى 112 كيلومتراً في الساعة.
يقول ميشيل في وصف ما رآه: «في ذلك الصباح لم تكن حيوانات التشيتا تشعر بالجوع، كانت تنطلق مسرعة حيناً وتقف حيناً آخر لتلعب مع بعضها. وأثناء تجوال الفهود مرّوا بقطيع من الغزلان، فرّ القطيع منهم لكن غزالاً فتياً تأخر بحيث أمسكه الفهود الأشقاء الثلاثة بسهولة. لكن حيوانات التشيتا لم تمزق الغزال الفتي كما هو متوقع، لأنها لم تكن جائعة، بل راحت تلعب معه». في إحدى اللقطات نرى أحد الفهود يلعق عنق الغزال بلسانه، وفي لقطة أخرى نرى الغزال يحك رأسه بعنق الفهد كما لو أنه يعانقه! والعجيب على حد قول ميشيل هو أن «الفهود لعبت مع الغزال قليلاً ثم تركته لشأنه ومضت دون أن تؤذيه!»
الفهود لم تقتل الغزال لأنها لم تكن جائعة! أما أبناء آدم فيقتلون إخوتهم بحجة الخوف منهم، وهم يكذبون لتبرير أفعالهم لأن الكذب هو ابن الخوف.
سألني أحدهم: أيهما أسبق في تاريخ الإنسان؛ النطق أم الأكذوبة؟
قلت له: الأكذوبة طبعاً، لأن الأكذوبة تولد في دماغ الإنسان ثم يأتي النطق تالياً!
بعض الساخطين على الأوضاع عندنا ينغمسون في الكذب ويمارسونه باندفاع و(صدق) لدرجة أنه يصبح الحقيقة الأقرب إلى أنفسهم. وهؤلاء يذكرونني بقول للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه الذي كنا نسميه فريد بك نتشه: «لا أحد يكذب بجرأة مثل الرجل الساخط». وما أكثر الساخطين بيننا وما أمضى جرأتنا في الكذب!
في روايته «خفة الكائن التي لا تحتمل» يقول ميلان كونديرا: «الاختبار الأخلاقي الأساسي للبشرية، اختبارها الأساسي، الذي يمتد عميقاً خارج مجال الرؤيا، يتكون من موقفها إزاء من هم تحت رحمتها: الحيوانات. وفي هذا الصدد واجهت البشرية كارثة أساسية، كارثة أساسية لدرجة أن كل الكوارث الأخرى تتفرع عنها».
نعم، نحن نكذب على أنفسنا وعلى العالم، بعيون مفتوحة، إذ نختار من الواقع الحقائق الأنسب لكي نمرِّر في ظلها أكذوبتنا، رغم أن سلفنا الصالح يرى أن «الكذّاب والميت سواء، لأن فضيلة الحي النطق، فإذا لم يوثق بكلامه فقد بطلت حياته».
والحسن بن سهل يرى أن «الكذاب اشرٌ من اللص؛ لأن اللص يسرق مالك، والكذاب يسرق عقلك».
على مر التاريخ كان الأشرار دائماً يتحدثون عن الخير لتبرير شرورهم، لدرجة أنه يمكننا تعديل مقولة: «الإنسان حيوان ناطق» بحيث تصبح: «الإنسان حيوان كاذب».
قبل سنوات كتبت في دفتر ملاحظاتي الفكرة التالية: «المبالغة حصان الكذاب، وأخطر الأكاذيب تلك التي تسير على ساقين».