البحث عن الكنوز

 

 

خيري الذهبي - تشرين

 

 

كان ضخماً بين الرجال طويلاً وقوراً حتى لتستغرب جلوسه في هذا المقهى, وكان يلبس معطفاً أسود طويلاً حتى تكاد تشك بأنه كاهن, وربما ما أثار استغرابي وشدني إليه المعطف الطويل الأسود رغم أن الوقت صيف وليس من يلبس معطفاً, وربما أحس بتحديقي الجانبي فيه إذ فوجئت به يبتسم لي بسمة كشفت عن طقم أسنانه الناصع فالتفتّ مبتعداً بناظري حرجاً.

بعد قليل فوجئت به يقف أمام الطاولة ونظرة آسرة في عينيه السوداوين العميقتين قال: أنت!! ولم أفهم, ولكنه كرر: عرفتك من النظرة الأولى. أنت!!
وبحرج دعوته إلى الجلوس, فجلس جلوس من لم يكن ينتظر دعوتي له للجلوس, وما كاد يجلس حتى أخذ يدمدم بصوت عميق خافت لم يلبث أن استولى عليّ, وبهدوء أخذت الكلمات تتوضح لأفهم منه أنه يبحث عني منذ سنين, وأنهم أخبروه أن الفرج والفرح والسعادة, و... الكنز سيظهر على يديّ, فأنا الموعود.
عند ذكر كلمة الكنز قفزت السخرية أمامي وهي تخرج لي لسانها مغايظة, فما الأحمق فيك الذي جعل هذا الرجل يعتقد أنك الأحمق الذي يمكن أن يخدع بحكاية الكنز والرجل الموعود! ولكنه استمر في الدمدمة دون اكتراث بالاستنكار الذي تجلى ولا شك على وجهي, استمر في التمتمة وكأنه بنغمته الرتيبة كان يريد تنويمي, ولم ألبث أن فهمت من دمدماته أنه لا يحتاج إلا إلى البخور, وذبيحة تذبح عن الكنز للإفادة من دمها الطازج.
فجأة رأيت في فتحة الباب صديقي الذي أنتظره, فلوحت له بيدي, وجاء يقهقه, وفجأة تحطم العالم من دمدمة وتنويم وكاهن لعالم قديم, اختفت روح السحر التي أحاطت بي جزئياً, وحين انتصبت لأحيي صديقي اختفى رجل الوعد والكنز, لأيام كنت أفكر في ظاهرة الكنز والوعد والطلسم والتغريمات والجان الحراس, وأخذت أعود إلى المراجع الجادة أحاول الوصول إلى تفسير, وكان التفسير الأول عند حسن الوزان في كتابه (وصف إفريقيا) فقال: والكنزيون, أي أولئك الناس الذين لا يريدون العمل لكسب الذهب, بل يبحثون عن الكنوز, أو عن مدخرات الأجيال التي سلفت ودفنت حصيلة عمرها خوف الظالمين.. (ثم يتابع حسن الوزان الذي عرفناه باسمه الأوروبي ليون الإفريقي, واستعاره الروائي اللبناني أمين معلوف اسماً لواحدة من رواياته) يتابع ليقول: وقبل خروجي من مدينة فاس أقام هؤلاء الرجال الكنزيون لغبائهم أميناً لهم (أي أقاموا ما يشبه النقابة, أو الأخوية واختاروا لها شيخاً) ثم عرضوا على أصحاب الأراضي التي سيحفرون فيها بحثاً عن الكنوز, عرضوا عليهم أن يصلحوا لهم الأرض بعد حفرها, فيردمون الأرض ويعيدونها سوية صالحة للزراعة من جديد.
 من هذا المقتبس عن حسن الوزان نستطيع أن نفهم شيئين, الأول انتشار عادة البحث عن الكنوز حتى لكثر الكنزيون وصاروا في حاجة إلى ما يشبه النقابة والنقيب لفض الخلافات فيما بينهم, ثم فيما بينهم وبين أصحاب الأراضي, والشيء الثاني أن الفكرة الشائعة عندنا في بلاد الشام عن المغربي مستخرج الكنوز بالتغريمات والسحر صحيحة, فلقد أنشؤوا لأنفسهم نقابة في المغرب.
وعاد السؤال: لماذا يتخلى بعض الناس عن نشاطاتهم المعيشية ويبيعون ما يملكون للوصول إلى الكنز.
وجاءني ردّ ابن خلدون في مقدمته وهو يتحدث عن الكنازين, فيقول: يعتقد الكنازون أن الفشل في العثور على الكنز رغم إضاعة العمر في البحث عنه ليس في عدم وجوده!! بل إلى سوء قراءة التغريمة, وفك الطلسم, أو إلى عناد حراس الكنز من الجان, ثم يضيف: وهؤلاء الكنازون عموماً ضعفاء عقول وحمقى, وسنجد من بينهم الكثير من طلاب العلم (الذين لم يقدم لهم العلم وعده بالعدل والكفاية) والكثير من الراغبين عن السعي الطبيعي وراء الرزق والإثراء أو الاكتفاء من السعي, فلقد أدركوا أن الأثرياء إنما يثرون من تملق الحكام والتزلف إليهم والتواطؤ معهم, ولما كان هؤلاء المتملقون محدودين لكثرة المنافسة انصرفوا عن نعمة التملق إلى التعلق بحلم العثور على الكنز وتوقفت عند تعليق ابن خلدون مرعوباً, يا إلهي, ألا تتقدم وتدور حضارتنا إلى الأمام إذاً أبداً, بل تدور لتقع في مطب: والأرض يرثها المتملقون, لا العاملون الذين سيسعون العمر كله وراء كنوز لن يصلوا إليها فهم لا يعرفون فك الطلسم!!