البصيرة والعمى المبين

 
 
 
 
محمد ابو معتوق - بلدنا
 
 
 
 
إذا اضطرب الهواء وهاج الغبار وماج, وسفع المسافات والعيون, كيف للرؤية والتعرف إلى الطريق أن يكونا ممكنين.
إذا حصل ذلك يستطيع الرائي الحصيف, أن يتلمس بعض الطريق بالحذر مرة, وبالخطو السليم, ومحاولة منع الغبار من اجتياح العيون والظنون.
أما إذا هدأ الغبار وسكنت الزوابع والأعاصير, وتحولت إلى نوع باهر من النسيم، فهل يستطيع الأعمى المبين العمى, أن يتلمس بعض الطريق.
لقد فعلها الانفجاران الأخيران بعد وقوعهما في دمشق, وحددا بدقة وسطوع.. كيف تكون الرؤية الواضحة وكيف يكون العمى المبين.
لقد حصل الانفجاران, وأدميا قلب وعقل دمشق الخالدة, التي لا يمكن لأحد أن يدّعي عشقها ومحبتها وتخليصها من محنتها, بارتكاب جريمة جديدة لا يجرؤ على اقترافها الشيطان الرجيم.
لقد تمكن الانفجاران الأخيران من إثارة قدر كبير من الغبار والضغائن والدماء, وشطرا مشهد الصراع إلى شطرين, قسم أعشت عيونهم المحنة, وقسم أصابتهم بالعمى وضياع الرؤية.
الذين أعشت أبصارهم المحنة.. نهضوا بعد أن تلمسوا أطرافهم وصفاتهم وأولادهم وعوالم طمأنينتهم المهدورة, نهضوا إلى وجوههم وأزاحوا عنهم غبار المصيبة.. التي أوقعتهم فيها الزلزلة وشدوا إزر ملامحهم, ومنعوا عيونهم عن بقايا الماء وتفرغوا لمسح الدماء واستجلاب الصبر والمؤازرة, والنهوض لإزاحة الغبار ليتمكنوا من الرؤية, ويقدروا على الإبصار, ولمّ الشظايا.. وبذلك تمكنوا من اكتشاف بعض الطريق بالخطو الوئيد, ثم ما لبثوا أن اكتشفوه كله، فتقدموا لتحديد أولوياتهم وجهات أعدائهم, ومحاصرة النزف.
أما الفريق الآخر الذي تجاهل الانفجار ودماء الإخوة والأهل, واكتفى بالشماتة والعمى المبين, وبعد أن عبر الشظايا والدماء والأشلاء, نصّب ذاته وغياب معناه وإيغاله في عماه, بوصفه الرائي الوحيد للأحداث, والناطق الرسمي الموثوق الجانب لأبعادها وكيفية حدوثها.
ومثل هذا النوع من مدّعي الرؤيا, تستجلبهم بعض قنوات الدخان وغياب الرؤية إلى عتمتها لتتباهى بهم وتفرد لهم مساحات واسعة تضّن بها على غيرهم. لذلك ظهر عليهم بعض من هؤلاء ليقولوا.. إن الانفجارين عمل انتحاري مدبر قامت قامت به السلطة.. لتضليل بعثة التحقيق المرسلة من الجامعة العربية.. وقد حصل هذان الانفجاران لعرقلة المسيرات السلمية الغاضبة التي تنطلق بعد صلاة كل جمعة, وقد أكد المذيع الممتلئ حياداً ومهنية على ذلك، بينما كانت كاميرات التصوير ترصد الجثث وأشلاء الضحايا, والدمار الذي لا تقدر على مثله الزلازل وسدنة الفتنة.
محلل آخر من الباحثين عن الحقيقة ربما أكثر من البطل المسرحي التراجيدي ( أوديب )، بخاصة بعد أن فقأ عينيه, هذا المحلل, ذهب مذهباً آخر في التحليل, لا تقدر عليه أفلام الخيال العلمي ولا مشاهد الأكشن في السينما الأمريكية في هوليوود..
هذا المحلل ظهر علينا في الفرانس (24) المحايدة بصوته الأجش ومخيلته الباهرة ليقول لنا, إن أياً من الانفجارين لم يحصل..
وإن الجثث والأشلاء المتناثرة والدم المسفوك والباص المحترق قد تم إحضارها جميعاً من جبل الزاوية, وأن كل شيء مختلق.. كل شيء, وخلال تصريحه العميق.. نسي هذا المعلق الحصيف, أن يقول للكاميرا التي كانت ترصد الواقع المرير, أن مئات السيارات التي أصابها الانفجار, وعشرات الأبنية التي دُمّرت واجهاتها وعشرات المصابين الذين حملوا شظايا جراحاتهم وزجاج نوافذهم واقتربوا من الكاميرا نسي أن يقول إن هؤلاء جميعاً قد أحضرهم مدبرو الانفجار من جسر الشغور وجبل الزاوية.

ونسي أيضاً أن يقول.. إن الأرض التي تناثرت أحشاؤها بسبب الانفجار وتطاير إسفلتها, ربما من فداحة الضغائن والأكاذيب أكثر من أحقاد الديناميت, هذه الأرض المغدورة, قد تم جلبها أيضاً من الجبال البعيدة لإتمام المشهد الهوليوودي الغارق بالأكاذيب والإثارة.

لقد حصل هذا الانفجار المروّع على تخوم الميلاد المجيد, وقديماً قال السيد المسيح « إذا فسد الملح فبأي شيء نملّح » وإذا فسدت الضمائر والرؤيا.. كيف يمكننا أن نتلمس الطريق...

الذي جرى في ما بعد.. أن إعلاناً عن الحاجة للتبرع بالدم لإسعاف جرحى الانفجارين ظهر على الشاشة, عند ذلك امتدت أذرع الجميع وتشكلوا في طوابير طويلة واتجهوا إلى إخوتهم المصابين..

عندها تنفست الشام الصعداء وعادت إلى الحياة كأحسن ما تكون, وأحسَّ الجميع أن الانفجارين لم يقعا في مكان سوى في قلوب وعيون العميان والكارهين.