التبني بالمقلوب

خيري الذهبي - تشرين

منذ فترة قريبة كنت أشاهد فيلماً أميركياً اسمه «العثور على أرض النعمة» وكان يتحدث عن متقمص الشخصية المطرب والراقص الأميركي ألفيس بريسلي،.

وفجأة تذكرت هذا الكم الهائل في الثقافة الأميركية من متقمصي مارلين مونرو ومتقمصي ألفيس بريسلي، وجون واين ولكن بريسلي ربما كان المحرض الأكبر على تقمصه فهو نجم الروك أندرول راقصاً ومغنياً، وبهدوء أخذت أتذكر العدد الكبير من الشبان الذين عرفتهم في حياتي ممن تقمصوا المطرب المصري محمد عبد الوهاب حتى إنَّ هناك من ضحى بموهبته الفنية وهو موهوب كبير بلا شك من أجل تكرار وتخليد محمد عبد الوهاب، وتذكرت مقلدي ومتقمصي فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ، بل متقمصات أم كلثوم وأسمهان. ‏

وكعادتي بدأت أتساءل: ما المغري في تخلي شاب أو شابة موهوبين عن البحث عن هويتهما الشخصية والذوبان في إهاب شخصية ماتت منذ زمن؟ ما المغري في انتزاع هذه الشخصية (التاريخية) من زمنها وصراعاتها ومشقات نشأتها، وانتقاء فترة زهوها ونجاحها ثم تقمص هذا الزهو والنجاح، أهو الاستسهال؟ أهو عدم الرغبة في خوض الصراعات الشخصية والبحث عن الجوهر الخاص للإنسان المتقمِّص (بكسر الميم)؟ ‏

وانغمست في هذه المتابعة وتساءلت: ماذا لو تحول الأمر إلى جد. ماذا لو قررت نخبة أمة ما في زمن ما تقمص زمن آخر وشعب آخر عاش ظروفاً تاريخية مختلفة وصراعات مختلفة، فاستطاع النجاح وصناعة تاريخ زاه، طبعاً بعد عقد تحالفات هائلة مناسبة للعصر، وتذكرت إيطاليي عشرينيات القرن العشرين أولئك الذين كانوا قد خاضوا ثورة كبرى في إيطاليا في القرن التاسع عشر لتجميع الموزاييك المبعثر لشبه الجزيرة الإيطالية وتحقيق الوحدة، ولكنهم أخطؤوا خطأهم القاتل حين سلموا ذلك الإنجاز إلى ملك مخادع هو فيتوريو ايمانويل وتوجوه ملكاً على إيطاليا وصقلية، ولكنه ما إن استلم العرش حتى بطش بأولئك الثوار ممن احتفظ لنا التاريخ باسمهم المحلي الكاربوناري أو الفحامين، فتفرقوا في أقاصي الأرض هرباً من بطش الملك، ووصل عدد منهم إلى مصر، وإلى حلب درة الدولة العثمانية التجارية وثاني مدنها، ولن أتحدث الآن عن تأثيراتهم الفكرية على الحلبيين، ولا عن ثمرة تلك التأثيرات الفكرية، بل أريد إكمال الحديث عن إيطاليا. ترى متى بدأت فكرة إحياء الدولة الرومانية الإمبراطورية العظيمة في عقول الإيطاليين، أو متى بدأت فكرة الفاشية تظهر في أمخاخهم وأفكارهم وتنظيراتهم، والفاشية أصلاً كلمة لاتينية تعني في البدء مجموعة من العصي Fascis كانت تستخدم لتدعيم السقوف أو أن القنصل اللاتيني أو الروماني القديم كان يحملها كناية عن منصبه كما كان الباشا العثماني يحمل أو يحمل له فوق رأسه عصا تحمل ذيل حصان دلالة على سموه ومرتبته العسكرية وكان الباشا على مراحل ثلاث، فباشا بذيل واحد أو طوخ كما يدعى بالتركية، وباشا بذيلي حصان، وباشا وهو الأسمى بثلاثة ذيول حصان، وربما كان هذا بقية باقية من شعائر البداوة التركية، وما ذكرني بها إلا مفهوم العصي اللاتيني المبتكر. ‏

المهم: جاء موسوليني وهو محام إيطالي إلى روما، وكانت الإمبراطوريات الإقطاعية الفيودالية قد أنهت صراعاتها في الحرب العالمية الأولى فاختفت الإمبراطورية العثمانية والنمساوية والهنغارية والروسية، وبرزت إلى الوجود الإمبراطوريات البورجوازية المصنعة، الفرنسية والبريطانية والجديدة الأميركية وأحس الألمان والإيطاليون أنهم يجب أن تكون لهم لقمة ما في هذه الكعكة التي ستسمى فيما بعد بالعالم الثالث، وهكذا استعاد موسوليني أو حاول وأقنع الشعب الجائع، الفقير إلى مجد ما بإحياء روما القديمة، فظهرت الفاشية، وقام موسوليني باستعراض قوته في مظاهر ملأت شوارع روما بأتباعه في القمصان السود والتحية الفاشية، فأخاف الملك فيتوريو إيمانويل الثالث وعينه رئيساً للوزراء في العام 1922 وسيظل رئيساً للوزراء وشخصاً أول في إيطاليا حتى العام 1943، حين أجبر على الاستقالة بعد هزائم مشينة للعسكرية الإيطالية في الحرب العالمية الثانية وبعد إخفاقه في غزو أثيوبيا واكتفائه باريتريا، وما لبث الأنصار أن قبضوا عليه وأعدموه شنقاً ثم علقوه مدلى بالمقلوب وأفرغوا فيه رصاصاتهم. ‏

قارئ تاريخ إيطاليا أثناء المرحلة الفاشية لابد أن يشعر بالذعر لاستغراق موسوليني وحزبييه بالشعارات والألفاظ دون تطوير المجتمع وتصنيعه كما فعلت ألمانيا وبريطانيا مثلاً والإريتريون يحفظون نكتة عن زمن الاحتلال الإيطالي وهي أن الصقليين الذين جندوا للمرة الأولى في جيش نظامي، ولما كانوا يخافون عليهم من القمل والجرب وزعوا عليهم قطع الصابون للاغتسال، ولكن الجند الصقليين الفلاحين أصلاً ظنوها جبنة فأكلوها!!! فقالوا عنهم ساخرين ششليانو مانجه سافوني!! أي الصقليون أكلة الصابون. ‏

تبنى موسوليني حكاية أنه وريث روما الإمبراطورية فأراد نفخ الروح في جسد ميت بالكلمات فلم يفعل إلا أن سرّع التفسخ للجسد الميت. ترى لو بحث عن جسد إيطاليا الشابة دون تاريخ روما كما سيحصل بعد الحرب العالمية الثانية، أفلم يكن ذلك خيراً له وللإيطاليين من إضاعة نصف قرن في الفاشية؟‏