التخلف والبحث العلمي

 

 

 

 

د.نبيل السمان - بلدنا

 

 

 

هناك فجوة ريبة كبيرة بين صانع القرار والبحث العلمي، وفي أحسن الأحوال يعتبر المسؤول التكنوقراطيين نظريين إلى أبعد الحدود؛ فهو يعلن أنه أدرى بالواقع على الأرض. لأن لديه رغبة في التشبث بالحاضر تطغى على أية رؤية مستقبلية؛ فالتغير يشكل تهديداً لوجوده باستبدال المجهول بالواقع .


فهناك نظرة مشككة بالتكنوقراط، وربما يرجع ذلك إلى الرغبة في عدم إثارة القلاقل أو خلخلة النظام.. ففكرة التغيير مخيفة للمسؤولين، مثيرة للقلق؛ لأن المستقبل قد لا يتضمنهم. فالدراسات وركيزتها؛ البحث العلمي هو أداة مجهولة تطرح نتائج تتضمن إعادة صياغة الواقع ببديل؛ فنحن لا نريد مواجهة المستقبل المجهول ولا البدائل، مع أن تنمية البلاد من الوجهة الاقتصادية أو السياسية تقوم على طرح البدائل والاحتمالات غير المتوقعة، ولكننا نريد الأمر الواقع.

 
فكل من يدفع باتجاه التغيير يجابه من الدولة بالرغبة في إبقاء الموجود، وذلك لتباين المصالح والروابط. فمن المفترض سيادة القانون على جميع أفراد الشعب، ولكن موقع الفرد أو منصبه مازالت تحكمه الروابط المصلحية والعائلية والعشائرية وتسيطر على القرار السياسي.


إن توافر بنية مناسبة لا بأس بها من الحرية والديمقراطية، بعيداً عن الضغط والممنوعات السياسية أهم المقومات لتطوير البحث العلمي في العالم العربي، وفي سورية بصورة خاصة, فالحريات هي أهم ركائز البحث العلمي؛ فلا يهتم أصحاب القرار بما يسمى «think tank» (مخازن التفكير) أي الدراسات البحثية بصورة عامة والسياسية بصورة خاصة، وبالتالي فالمسؤلوون في أغلبهم ليس لديهم خلفية في البحث العلمي أو خبرة في الممارسة العملية؛ فنظرتهم وتقييمهم يكتنفهما الغموض، سواء في التطبيقات الإدارية والاقتصادية، أم على الصعيد السياسي.

فالبحث العلمي لا يعدو رأياً استشارياً، والقرار العربي مرتجل ولا يتجاوز استشارات تتضمن بعض الأشخاص المهتمين بموضوع ما. الدول العربية لا تسمح بظهور مراكز ذات مضمون سياسي أو اجتماعي، بل إن القائمة منا تأخذ في الاعتبار وجود السلطة وإلا فلن يقدر لها الاستمرار، بل قد تخضع للضغوط لتغير نتائج الدراسات، وإلا سوف تختفي من الوجود؛ فهناك رغبة من صناع القرار العربي في الاستحواذ على صنع القرار وعدم إشراك الآخرين، بما فيها مراكز البحث العلمي. ومع أنه يوجد عدد محدود من مراكز الدراسات العربية، إلا أن معظمها سياسي وليس لها استقلالية بعيدة عن سياسات الدول الداعمة لها.
فهناك فرق في التعاطي مع مراكز البحوث بين إسرائيل والدول العربية، فلا تؤخذ الدراسات السياسية بجدية من أصحاب القرار العربي، بل قد تذهب الحكومة إلى معاداة تلك المؤسسات إذا لم ترق لها نتائجها البحثية، ويبدو ذلك واضحاً في الدور المهم الذي لعبه مركز تامي لأبحاث السلام في إسرائيل، حيث قام المركز بالدراسات السياسية التي ساعدت الحكومات الإسرائيلية، بما في ذلك قرار جدار الفصل في الضفة الغربية ومسودة أوسلو للسلام مع الفلسطينيين، ومسودة فصل القوات على الجبهتين السورية والمصرية، كما قام معهد هرتسليا في تل أبيب في صياغة خطة الانسحاب من غزة وتعريف إسرائيل كدولة كما قام معهد الأمن الوطني في حيفا بدراسة الوضع السكاني (الديمغرافي الفلسطيني وخطره على الأمن القومي الفلسطيني الناتج عن عدم حل القضية الفلسطينية ومن حلوله الترانسفير (مبادلة السكان العرب في «إسرائيل» وإعادة تشكيل الحدود) وتعدد تلك الدراسات واضح من خلال السياسات الإسرائيلية.


إن فشل مشروع النهضة العربية وهجرة العقول العربية إلى الغرب، يعود إلى عدم الاهتمام بالعلم. فانعدام البحث العلمي أحد الأسباب الرئيسة في الضعف الاستراتيجي العربي تجاه إسرائيل أدى إلى عدم قدرة العرب على المجابهة الاقتصادية والعلمية. إذ تشير دراسة لمركز الخليج للدراسات الإستراتيجية، إلى أن هجرة العقول العربية تكلف الدول العربية ما يزيد على 200 مليار دولار وأن المجتمعات العربية أصبحت طاردة للكفاءات العلمية العربية، كما أن البلاد العربية تسهم بـ 31 ٪ من هجرة الكفاءات من الدول النامية إلى الغرب بنحو 50 ٪ من الأطباء و23٪ من المهندسين 15 ٪ من العلماء الأكفاء من العالم الثالث وأن 75 ٪ من الكفاءات العلمية العربية تهاجر إلى ثلاث دول هي: أمريكا وبريطانيا وكندا، وأن 45 ٪ من الطلاب العرب الذين يدرسون في البلدان الأجنبية يهجرون أوطانهم.


إن إهمال البحث العلمي يتجلى في قلة الحوافز المادية من حيث الإنفاق الحكومي إذ تشير إحصاءات منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم (اليونسكو) إلى أن الدول العربية تقع في أدنى معدلات كثافة الإنفاق (نسبة موازنة البحث العلمي والتطوير إلى الناتج القومي الإجمالي) على البحث العلمي والتطوير إلى النتاج القومي الإجمالي) على البحث العلمي بنسبة تتراوح بين (5.1 ٪ - 5.2 ٪) بينما تصل في إسرائيل إلى (2.53 ٪).
 

إن غياب الاهتمام بالبحث العلمي على الدولة له نتائجه الكارثيه على التنمية الاقتصادية والمواجهة مع إسرائيل من حيث إعداد جيل قادر على التعامل مع التطورات الميدانية والعلمية والاقتصادية، فقواعد البيانات الالكترونية على درجة كبيرة من الأهمية لثورة التكنولوجيا والمعلومات، حيث سمحت قواعد البيانات بسهولة الحصول على المعلومات. فأين نحن العرب من قرارات عشوائية ظرفية دون محتوى بحثي ولا أساس لها سوى الاستئثار بالسلطة وإلغاء الآخر