التوحد مع المنصب

المناصب دوارة إلا فى مصر.. ويقال في أى مكان إن شخصا تولى منصبا، أما في مصر نقول إن فلانا احتل منصبا.. وفارق كبير بين تولى المنصب واحتلاله.. وكلمة الاحتلال تنطبق تماما على حالة المناصب في مصر.. وكلما ضعفت المقاومة استقر الاحتلال، فتنشأ حالة التوحد مع المنصب.
والتوحد مرض مزعج، ينفصل صاحبه عن المجتمع الذي يعيش فيه، ويكون من الصعب عليه اكتساب خبرات في التعامل مع الآخرين.. قد يكون صاحبه عبقريا في مجال معين، إلا أنه يعيش داخل نفسه، لا يشعر أن أحدا حوله.. والتوحد تظهر أعراضه على الطفل عند بلوغه الثالثة من العمر ويظل ملازما له مدى الحياة.. ولكن أعراض التوحد مع المنصب تظهر بعد اعتلاء كرسي القيادة..
وهنا يبدأ في الانفصال عن مجتمعه، ويعجز عن التواصل مع الآخرين، فلا يشعر بوجود أحد غيره خارج الكرسي الذي يجلس عليه.. وربما كان هذا الرجل ينادي بالتغيير قبل المنصب، أما بعده فلا يطيق سماع كلمة تغيير، ويتحول إلى مدافع عن الأبدية في المنصب، ويتهم المطالبين بالتغيير بالعمالة والخيانة.. ولا يمكن خلعه من منصبه إلا بمعجزة.. وقد بلغت خطورة التوحد مع المنصب منتهاها بعد أن انتقلت من الحكومة إلى المعارضة كما تابعنا خلال الأيام الماضية.
وحالة التوحد مع المنصب في مصر لها أسبابها.. فالمنصب القيادي سواء كان عاما أو خاصا في مصر مرتبط بمجموعة من الامتيازات غير المنطقية.. فربما يتقاضى الرجل ذو المنصب عشرات الألوف، بينما يتقاضى المسؤول التالي له فى مؤسسته عدة مئات، حتى إن شهرا واحدا فى بعض المناصب يحقق ثروة لصاحب المنصب، أو يحل أزمات عشرات الأسر الفقيرة لعدة أشهر.
وقد يظن البعض أن الإغداق على أصحاب المناصب القيادية بالمال الكثير ربما يخلق نوعا من الولاء، أو يمنع خيانة تضر صاحب المنصب الأعلى.. ولكن المؤكد أن هذا الإغداق يحقق مصالح تجعل الرجل يحارب ويجاهد من أجل البقاء في المنصب.. وليس شرطا أن يكون صاحب المنصب كفؤا أو مؤهلا لتولي المنصب من الأصل.. وليس شرطا أن يكون لدى الرجل مايقدمه إذا تولى المنصب.. وليس شرطا للبقاء أن يكون الرجل ناجحا في منصبه..
فقد يكون فاشلا وتافها ومخربا.. ولكنه يستمد قيمته من منصبه.. فما إن يحتل المنصب حتى يتحول لخبير ليس كمثله خبير.. والمؤسف أن كل صاحب منصب يجذب نحوه من المنافقين من يحققون غروره ويتلون عليه مايحب أن يسمعه فقط.. وكلما تحدثوا اقتنع الرجل بأنه مبعوث العناية الإلهية، ويزداد غرورا وتمسكا بالمنصب.. ويزداد توحدا معه.
انظر حولك ستجد أصحاب المنصب الرفيع كثرا.. قس راتب أي منهم.. «رسمي» و«إضافي».. واحصر مخصصاته من سيارات وسفريات ومقابلات وعلاجات، وبعضها يستعصي على الحصر.. ستعذره في دفاعه المستميت عن منصبه حتى النفس الأخير.. وكلما علا المنصب زادت المخصصات.. ولو كان المنصب مما يقتضي معه وجود حراس زاد التوحد.. أما لو كان من المناصب التي تقتضي إغلاق المرور لسيادته يكون التوحد فى أخطر حالاته.. وقليل من أصحاب المناصب ناجون من هذا التوحد ولأسباب تتعلق بنشأتهم وطبيعة شخصياتهم.
والحقيقة أن المتوحد مع منصبه يكون سعيدا بما هو فيه.. فخورا مزهوا بنفسه.. لا يعبأ بأحد.. لا يدرك أحاسيس ومشاعر الآخرين.. أما المشكلة فتكون مع المحيطين بالمتوحد.. فهم المتضررون منه.. ولا يستطيعون الشكوى أو تغيير الواقع.. وهم مضطرون للتعامل معه في ألم وحسرة.. وهم أيضا مطالبون بتحمله والابتسام في وجهه.. ولكنه لا يشعر بهم كما يشعرون به.. ولا يدرك أن لديه مشكلة كما يدركون.
والتوحد لدى الأطفال ليس له علاج، والأطباء عاكفون على دراسته بعد انتشاره الواسع.. أما التوحد مع المنصب – ولله الحمد– فله علاج معروف وناجع.. فالديمقراطية الحقيقية لها تأثير السحر في علاج هذا المرض العضال.. والديمقراطية الحقيقية تجعل الرجل يعتلي المنصب وهو يدرك أنه فى مهمة مطلوب تنفيذها بدقة، وأنه لو أخفق سيترك المنصب لمن يقدر..
وسيدرك أيضا أن منصبه ليس تكريما ولا تشريفا، ولكنه يعني أن مسؤوليات جساما تلتصق مع المنصب عليه تحملها.. وتجعله غير سعيد بتقاضى أموال غير منطقية ويسأل عن مصدرها.. وتدفعه لإقامة العدل قدر استطاعته بين المرؤوسين.. وتمنعه من تقاضي ملايين مقابل توليه المنصب بينما مساعدوه ومعاونوه يتقاضون الملاليم.
المصري اليوم - أسامة هيكل