الثورات العربية بعهدة النظام الرسمي العربي

في عام 2000 ظهر ثلاثة من القادة العرب الشباب في صورة مشتركة بنى عليها الشباب العربي قاطبة الكثير من الآمال منتظراً أن تُشكّل تلك اللحظة طفرة في بنية النظام الرسمي العربي بكل ما يعنيه من قمع للحريات و انصياع للغرب و تضييع للحق العربي محاباة لإسرائيل و لمن والاها ، فالملك الأردني و الملك المغربي و الرئيس السوري هم من خريجي أرقى الجامعات الغربية و بالتالي هم ينتمون لشريحة واسعة من جيل شاب لم يعد يرَ بُداً من بناء دول عربية تضع حداً لعهد المحميات و تكف عن مقايضة كراسيها بالتبعية لواشنطن و الاستسلام لإسرائيل .
في ذلك العام ألحقت المقاومة اللبنانية هزيمة تاريخية بإسرائيل التي انسحبت ذليلة من معظم أراضي جنوب لبنان، نصرٌ عزز شعبية المقاومة بين الشباب العربي الذي بات يدرك أكثر من أي وقت مضى أن إسرائيل قابلة للهزيمة.
في المقلب الآخر كانت واشنطن و حلفاءها يراقبون هذه المجريات لكنهم لم يكونوا قلقين من أي تحول دراماتيكي يحول المغرب و الأردن ـ في ظل قياداتهما الشابة ـ إلى بلدان مقاومة " فذاك الشبل من ذاك الأسد "، بالمقابل ـ و تطبيقا لذات المثل ـ لم تكن واشنطن و حلفاءها مستعدين لرؤية سوريا تزداد ممانعة و قوة في حال قام الرئيس بشار الأسد بتنفيذ إصلاحات ديمقراطية نوعية وعد بها في بداية عهده ، فقرروا الشروع بالتآمر على سوريا عبر إغراقها بسلسلة من الحروب المعلنة ( حرب العراق و قائمة كولن باول للاستسلام 2003 ـ حرب تموز 2006 ـ حرب غزة 2008 ) التي عرقلت إصلاحات كان من المُفترض أن تضطلع بها ذهنيات شبابية بدل من تلك الفاسدة الهرمة المٌنتشرة في معظم مؤسسات الدولة السورية ـ و هنا يكمن السبب الثاني لعرقلة الإصلاح و هدفه الرئيسي أيضا ـ فسوريا كدولة مقاومة كانت بحاجة لدماء جديدة و نظيفة تجري في عروقها . في الحقيقة كان يمكن لعجلة الإصلاح أن تتحرك بكل ثقة في فترة انحسار الهجمة الغربية على سوريا ( 2008 ـ 2011 ) فالشعب السوري كان ينتظر الإصلاح كمكافأة على صبره و صموده خلال أعوام الأزمة العجاف ، و لكن للأسف شهدت حقبة انحسار الأزمة تلك اتخاذ أسوء القرارات الاقتصادية و الاجتماعية من فريق حكومي جعل الهمّ المعيشي للمواطن السوري آخر همه ، و جعل من الطاقات الشابة هدفاً يجب تصفيته ، كل ذلك في مناخ شبه مغلق من حرية العمل السياسي.
القضاء على كل أشكال الفساد و رفع سقف الحريات كان عنوان الحراك الشعبي الذي انطلق في 15 / 03/2011 ، حراكٌ أراد من خلاله الشعب السوري أن يعيد قضية الإصلاح إلى ساحته و ليسحبها من أيدٍ طالما استخدمته في غير صالح المواطن السوري، هذه المرة كان رد القيادة السورية برنامج إصلاحي واعد يمكن له أن يجعل من سوريا دولة أكثر ممانعة كونه يصالح ما بين الشباب و مؤسسات الدولة و لا يستثني معاقبة من استهدف المتظاهرين السلميين في بداية الأحداث ، فلماذا تمت معاقبة الشعب السوري على طموحاته الإصلاحية من قبل العرب و الغرب و أمريكا على حد سواء ؟ و أي رسالة أراد هؤلاء أن يبلغوها عبر سرقة ثورة مصر و بث الفوضى في ليبيا إضافة لحصار سوريا؟ .
مع الأخذ بالاعتبار وجود فئة من السوريين التي لا ترغب برؤية إصلاحاً في سوريا ، فإن سوريا كدولة ممانعة ، ديمقراطية يقودها شباب طموح يؤمن بالانفتاح على الآخر بمقدار إيمانه بالقضايا الوطنية المرتبطة بالصراع العربي ـ الإسرائيلي ، سوريا كهذه لا تشكل فقط تحدٍ للغرب ـ الأمريكي بل أيضاً تحدٍ حقيقي لأنظمة عربية معادية لكل تحول ديمقراطي ، أنظمة تخلت بالكامل عن فلسطين لتضمن حماية الغرب لعروشها من ثورة شبابها . الخوف من ثورات الشباب أقض مضاجع غالبية الحكام العرب و أصاب واشنطن و الغرب و تل أبيب بدوار حقيقي لرؤيتهم حليفهم بن علي يسقط ـ و بشكل مدوٍ ـ على أيدي شباب تونس ، أنها الصحوة العربية التي تحتم على كل المتضررين منها أن يتدخلوا و يقضوا عليها عبر تبنيها و من ثم تمييعها، و هذا ما حدث في مصر إذ و بُعيد اندلاع الثورة المصرية الأولى توجه أوباما لمبارك طالباً منه التنحي لكن ليستبدله بمجلس عسكري موال ٍ لأمريكا و لإسرائيل ، و ليقول للمصريين " الشباب يصنع الثورة و نحن نُعين الحكام " ، هذه الرسالة رفضها الشارع المصري قبل أيام حين أشعل ثورته الثانية ليستعيد الأولى و لتستمر ضده المؤامرات.
رسالة أقوى أراد النظام الرسمي العربي أن يوجهها إلى شعوبه بعد اندلاع ثورة ليبيا مفادها : " إما نحن أو الدمار" ، فعرب الردة هم من ساهم بعسكرة الثورة الليبية ـ التي بدأت سلمية ـ ، حين قامت مؤسسات النظام الرسمي العربي ( مجلس التعاون الخليجي و الجامعة العربية ) بمطالبة الناتو (عبر الأمم المتحدة ) بالتدخل عسكريا لحماية الثورة ، تدخل نتج عنه تدمير ليبيا و نهب نفطها و وضعها على حافة نزاعات محلية تهدد وجودها كدولة.
أما سوريا فكانت التحدي الأكبر للنظام الرسمي العربي المتحالف مع الغرب و واشنطن ، فالكل يسعى لمعاقبة الشعب السوري على مواقفه المقاومة لكل سياسات التركيع و الإذلال عبر حرمانه من استكمال مشروعه الإصلاحي الواعد ، فهاهم عسكروا جزء من الحراك الشعبي و يسعون لتحويل الساحة السورية إلى ساحة صراع بين الجيش ومسلحين يتوافدون عبر العراق و لبنان و الأردن و تركيا بعد أن يتم تدريبها بدعم و تمويل من النظام الرسمي العربي و حلفاءه الأمريكيين و الغربيين ، عسكرة الساحة السورية تهدف بالدرجة الأولى إلى إغراق البلاد بالفوضى و الدم تمهيدا ً لاستجلاب الناتو عبر بوابة الجامعة العربية بكل ما سيتمخض عن ذلك من تقسيم سوريا و الإطاحة بها كدولة و كمشروع قومي .
لم يعاقب شعب في الأرض على طموحه بحياة أفضل كما يُعاقب الشعب السوري اليوم من قبل الغرب و أمريكا و النظام الرسمي العربي، هؤلاء جميعا يريدون إيصال الرسالة التالية : "الإصلاح أو الثورة اللائي يشجّعن على الإطاحة بأنظمة عربية حامية للوجود الإسرائيلي إنما هما أمران مُحرمان تماماً كالإصلاح الذي من شأنه تعزيز منعة سوريا كدولة مقاومة".
حمى الله سوريا ، و ألهم شعبها الصبر على أذى الأشقاء في هذا الزمن العربي الرديء و الموحش .
الدكتور عصام التكروري
دكتور في القانون العام و باحث في القانون الدولي