الجنرال في متاهة

كحبيبين مخلصين في فترة المواعدة والخطبة، ظلت العلاقة بين الشعب الثائر والجيش الحامي والضامن على أحسن نحو ممكن، وقد أظهر كل من الطرفين أفضل مناقبه على الإطلاق، وغلبت الثقة سوء الظن، وأخمدت فورة العواطف النبيلة نار الهواجس المشروعة، فأمكن للبلد عبور فترة صعبة، وتفادي الأهوال والمخاطر الجسام. راحت السكرة، وجاءت الفكرة. عبر المحبان المرحلة الأولى إلى حيث الاقتران التام، وباتا شريكين ملتزمين، ومسؤولين متلازمين، في مواجهة مصاعب وتحديات عارمة، فبانت العيوب، وظهرت المآخذ، وبدأت بوادر الضغط والإلحاح تحل مكان إشارات الود وعبارات الاستحسان. من أنصت لمسار الهتاف الذى خص به الشعب الثائر جيشه الحامى، منذ اندلاع «ثورة النور» فى ٢٥ يناير الماضى حتى أمس الأول الجمعة، يدرك أن الشعارات الناعمة باتت تنحو إلى الخشونة، ومن تابع ردود العسكر على مطالب الشباب المتطلعة والجسورة والملحة، يلمس بوادر نفاد أرصدة السماحة والصبر. على مدى العقود الثلاثة الماضية، حافظ الجيش على قدرته على أداء مهامه الأساسية، وخالط الحياة المدنية بقدر ما سمح له القائد الأعلى، وسعى إلى صيانة مقدراته ومكتسباته بقدر ما أتاحت له الظروف، دونما أى رغبة أو محاولة لتوسيع رقعة تأثيره، وبسط مساحة نفوذه خارج حدود الميدان. لم يكن الجيش يفكر خارج إطار مهامه التى تم تحديدها بدقة سلفاً، ولم يكن يطور آليات لتحقيق أهداف أكثر التصاقاً بالحياة المدنية، ورغم الإشارات العديدة إلى استشعار قيادات القوات المسلحة خطورة الأوضاع فى نهاية عهد مبارك جراء تغول الفساد واتساع الفقر، فإن الواضح أن تلك القيادات لم تتصور السيناريو الذى تحقق حتى فى أسوأ تحليلاتها، وبالتالى فهى لم تكن أبداً مستعدة لمواجهة تداعياته وتلبية استحقاقاته. تسطر قواتنا المسلحة الباسلة سطراً منوراً جديداً فى سجلها الوطنى، وقد برهنت، فى مواكبة الثورة، على جدارتها بالثقة واستحقاقها للمكانة التى تتمتع بها فى الوجدان الجمعى. لكن ما بات واضحاً فى موازاة ذلك، أنها تنطوى على بعض السمات التى كرّسها عصر مبارك فى مؤسسات الدولة المختلفة، وأنها لم تكن يوماً سوى جزء من النظام العام، حريصة على استدامته وأمنه، ومستوعبة بعض هناته، ومرتبطة بهياكله، وراغبة فى إبقائه دون الانهيار التام، وبمنأى عن التعرض لسحق المكانة وتلطيخ السمعة، بقدر المستطاع. يعرف أى فرد فى قواتنا المسلحة الباسلة أنه قد يواجه عدواً شرساً متوعداً فى أى لحظة من اللحظات، وتنخرط المؤسسة العسكرية فى تدريبات ومناورات دورية مكثفة، وتطور تسليحها، وترقى استعداداتها، لمجابهة تحديات تشخصها وتدركها باستمرار. وهى وإن كانت قد أدركت حجم ما ينطوى عليه جهاز الدولة السياسى والبيروقراطى من فساد وخطل، فإنها لم تكن مضطرة لمعرفة التفاصيل، ولا تقييم أداء المسؤولين، ولا اقتراح أسماء مرشحين من ذوى الكفاءة والنزاهة لمناصب رئيسة، ولا تطوير الخطط البديلة الجاهزة لمواجهة الخراب والتردى الذى صنعه العهد السابق على مدى ثلاثة عقود كئيبة ومخزية. وجدت القوات المسلحة نفسها فجأة فى ميدان غير ذلك الذى تدربت طويلاً على الأداء فيه، وتحت ضغط لم تتعود عليه، مطالبة، فى شهور محدودة، بتحقيق ما عز على أهل الاختصاص والتفرغ تحقيقه فى عقود طويلة. يعطى الزخم الثورى قوة دافعة للجيش فى كثير من الأحيان، ويضغط على أعصابه أحياناً، ويعطى الجيش الثورة اطمئناناً وحماية وأمناً فى كثير من الأحيان، ويخمد جذوتها أحياناً. الجنرال لم يهبط على ميدان الثورة من عالم ملون بعيد، لكنه جاء من موقعه على يسار النظام الذى تعرض للإطاحة، ولم يأت لينفذ مطالب الثوار حرفاً حرفاً، لكنه أتى لينقذ البلد، ويلبى نداء الوطن، ويحفظ «المؤسسة»، وما يمكن أن يبقى للنظام من هياكل وآليات وسمعة. الجنرال فى متاهة، مرة لأنه كمن دخل قاعة العرض الغارقة فى الظلام من دون مصباح إضاءة يساعده على تفحص وجوه الجمهور والوصول إلى حيث يشاء، ومرة لأن الفيلم المعروض لا يناسبه ولا يطيب له، ومرة لأنه لا يعرف طريق الخروج على وجه التحديد، ومرة أخيرة لأن القواعد لا تسمح له بالخروج إلا بعد انتهاء العرض على أى حال. على الجيش ألا يدير معركته فى الظلام، وألا يجابه التحديات ممسكاً العصا من المنتصف. والحل أن يخلع حكومة شفيق، ويطيح بكل رموز عهد مبارك، ويقدم الفاسدين إلى المحاكمات، أياً كانت أسماؤهم وأعدادهم، وأن يأتى برجل لا ينتمى للنظام السابق من قريب أو بعيد، ويمكّنه من تشكيل حكومة تكنوقراط انتقالية، تضم كفاءات تحظى بالسمعة والمكانة، فتجرى الانتخابات، وتشرف على التحول الديمقراطى، وتأخذنا بعيداً عن المتاهات.
الجنرال فى متاهة، وقد يأخذنا جميعاً إلى متاهة، إذا لم يدرك أن اللحظة التى انتدبته الأقدار لها تاريخية بأكبر مما قد يقدر، ومصيرية بأكثر مما قد يدرك، ولهذا فلن يكون بإمكانه إرضاء الشيطان والرحمن فى آن.
ياسر عبد العزيز - المصري اليوم