الجيل الجديد لدور النشر: لا تتركوا الشباب وحيداً

اختتمت في السادس عشر من الشهر الجاري، فعاليات «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» في دورته الرابعة والخمسين. بين زحمة كتب الأبراج والطبخ والتواقيع لأسماء متداولة في عالمي الأدب والسياسة، أمثال عباس بيضون «مرايا فرنكشتاين» وحسن داود «فيزيك» وجورج قرم «تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب» وغيرهم، كانت ثمة تواقيع لفئة أخرى أقلّ منهم سناً وتجربة، أتت نتاجاتها تعبيراً عن أفكار وهواجس وهموم كتبت بلغة وأسلوب شبابيين مختلفين عن السائد، سواء في الأدب أو الشعر.

لكن ما نسبة هؤلاء الشباب من جملة التواقيع والنشر؟ وكيف هي علاقتهم بدور النشر وهل تفرد هذه الأخيرة مساحة كافية لأعمالهم؟ وما هي المعايير التي تعتمدها هذه الدور في النشر؟

تنحصر الإنتاجات الشبابية غالباً في الرواية والشعر والنثر والرسم، فلا تتعداها إلى غيرها من المضامير، كالأبحاث الأكاديمية على اختلافها، من فلسفية وسياسية واجتماعية. الأمر الذي يضعف من احتمالات الموافقة على كمّ هائل من المخطوطات الأدبية التي ترسل إلى دور النشر، بحيث يتم إخضاعها لمعايير وآليات صارمة فلا ينشر منها ما يتخطى عدد أصابع اليد، وهو ما يجعل من نسبة الإصدارات الشبابية ضئيلة، قياسا إلى حركة النشر بشكل عام.

هذه هي الحال مع دار الآداب، التي نشرت هذا العام لكل من سحر مندور «32» (روايتها الثانية عن دار الآداب)، وهلال شومان «نابوليتانا» (روايته الأولى عن دار الآداب)، ومحمد بركات «شهوة جدتي» (روايته الأولى عن دار الآداب). في هذا الشأن تقول مديرة الدار رنا إدريس «للآداب لجنة من النقاد (لجنة قراءة)، يقرأ أعضاؤها المخطوطة التي تقدم من دون ذكر أي معلومة عن المؤلف، ثم تقدم تقريراً وفق المعايير التي تعتمدها، لتقرر إن كانت المخطوطة قابلة للنشر أم لا. من هذه المعايير نجاح المؤلف في خلق عالم متخيّل، ثم البنية الروائية المتماسكة، واللغة الجديدة والمتينة حتى لو كانت الرواية بمضمون عبثي».

ورغم إشارة إدريس إلى أن الدار كانت السباقة منذ تأسيسها، في إشاعة أسماء باتت مشهورة في عالم الرواية (الياس خوري مثالاً)، لكن روايات كل من سحر مندور ومحمد بركات وهلال شومان لم تكن من بواكير أعمالهم الأدبية، وهم علاوة على ذلك معروفون إلى حدّ ما في عالم الصحافة المكتوبة، فهل كان النشر لهم يمثل مخاطرة فعليّة؟ تردّ إدريس: «هناك مخاطرة في النشر حتى للأشخاص المعروفين في عالم الصحافة، والسبب أنهم غير معروفين كفاية في عالم الرواية. نشر الأعمال الأدبية للشباب عموماً فيه الكثير من المغامرة، لكننا نعمل على تكريس أسماءهم». لكنها تعترف: «نجد تهافتاً على الرواية الشابة من الفئة العمرية التي تكون متقاربة من الفئة العمرية لكاتب الرواية»، ثم تضيف: «نحن نبحث بشكل دائم عن أقلام جديدة».

في المقابل، يرى البعض أن دور النشر العريقة كالآداب والساقي والفارابي والنهار لا تفرد حيزاً كافياً لبواكير الأعمال الأدبية. هلال شومان يقول معمماً على الدور اللبنانية أنها «تمسك العصا من المنتصف. هناك إحساس أنك يجب أن تكون مكرساً قبل أن تجرب بعض الأساليب الجديدة التي قد تكون مفزِعة لبعض الدور. وهو ما ينعكس رقابة ذاتية عند الكاتب الذي يود أن ينشر كتابه». ثم يردف «أرغب في القراءة لكتّاب شباب لم أقرأ لهم في الصحف. لا أعرف عنهم شيئاً ولم أسمع بأسمائهم من قبل. أن أقرأ لطلاب ثانويين وجامعيين مع العيوب المفترضة للتجارب الأولى. عليك أن تبني لتؤسس ثقافة قراءة، وثقافة شراء كتاب. على أحد ما أن يجرب، أن يرمي الحجر في الماء الراكد ليقارب تموجات السطح ويحدد بعدها خطوته القادمة».

أما سحر مندور فترى «أن الشباب ودور النشر، في آن، يتشاركون مسؤولية الإنتاج. فالشباب ليسوا قيمة مقدسة يتوجب على دور النشر احترامها ونشرها مهما أنتجت، فهم جزء من المجتمع، ولإنتاجاتهم مستويات. ودور النشر أيضاً، ليست سلطة ممتنعة مختبئة، بل هي وسيلة للتواصل بين ناس وناس، عليها أن تلبّي هذا الدور، وتؤمن الاستمرارية. ولقد حصل أن بادرت دور النشر باتجاه الشباب، إن بقبول النشر، أو عبر وسائط أخرى. فالشباب ودور النشر يختبرون بعضهم، فلنر إلى أين ستقودنا تلك المرحلة».

مندور التي وقّعت روايتها الثانية «32» عن دار الآداب تقول: «في البدء، لم أفكر كثيراً. معظم الروايات التي قرأتها، طبعت في دار الآداب. شعرت بأنها المقصد الطبيعي لنشر رواية. أحببت اعتمادهم في التقييم على «لجنة قراءة» مكوّنة من مجموعة من الأدباء العرب المجهولي الهوية بالنسبة إلى كاتب الرواية. احترمت مهنية هذه الفكرة. فلم أتردد في تكرار التجربة».

أما عن احتمال التعامل مع دور بديلة فتشير مندور إلى أنها لبّت دعوة «دار الشروق» لإعادة طباعة روايتها الأولى «سأرسم نجمة على جبين فيينا» وتوزيعها في مصر. «لم أشعر بأني «أبدّل» داراً، بل إن جزءاً مني يستقر، ولو رمزياً، في مصر، ومنها، أنطلق إلى الوطن العربي. فمصر هي مسقط رأسي، ثم إن القاهرة حالياً تشهد حركة نشر قوية ولافتة ومعاصرة، للشباب فيها حصة الأسد. أما في لبنان فلم أفكر بالتعامل مع دار نشر أخرى».

لم يختر محمد بركات دار الآداب، «بمعنى أنه لم يكن أمامي خيارات. خصوصاً وأنّها الدار الأكثر مصداقية في نشر الأدب، وتحديدا الرواية». وبركات الذي سبق له ونشر مجموعة شعرية عن «دار مختارات» في العام 2005، ومجموعة أخرى بعنوان: «المدينة لا تتسع لرجل جديد»، في العام 2007، عن «دار النهضة العربية»، يقول «لم أبعث بنصوصي إلى دار أخرى. كانت الآداب وجهتي و«حصل نصيب» كما يقال في اللهجة المصرية»، ويضيف: «ليس معروفا عن «الآداب» سعيها إلى نشر الإنتاج الشبابي بقدر صورتها كدار كلاسيكية تنشر للمكرس من الأسماء. لكن يبدو أنها قررت هذا العام أن تفتح بابا جديدا، ليس للشباب، بل للمقبلين حديثا على كتابة الرواية».

يصف هلال شومان تجربته مع دار الآداب بالجيدة في مسائل كثيرة. لكن رغم ذياع صيت الدار ومكانتها بين الدور الأخرى يبقى التوزيع والانتشار مسألة تؤرق مطلق أي كاتب. يشير شومان إلى أن «هذه المشكلة تتعدى الدار لتشمل جميع الدور العاملة في لبنان. فهناك مشكلة حقيقية في تسويق الكتاب، وكيفية النظر إليه كمنتَج. فكيف توزّعه؟ وعبر أي قنوات؟ ماذا عن النسخ الإلكترونية من الكتب، خاصة مع انتشار القارئ الالكتروني؟ كيف تتفق على عرض كتابك في المكتبات الكبيرة كي لا يضيع وسط أكوام الكتب؟ ماذا عن النشر المشترك مع دور نشر عربية وإصدار نسخات خاصة من الكتاب في بعض البلدان تلائم مادياً قدرة القارئ العربي؟ غالباً ما تكون الحلقة التي تفصل بين إصدار الكتاب ووصوله ليد القارئ مفقودة، مما يضطر الكاتب للقيام بأمور تسويقية بنفسه كالظهور في بعض البرامج التلفزيونية، أو نشر مقتطفات من الكتاب في الصحف».

يخضع النشر إذاً لشروط صارمة تفرضها الدور القليلة التي تستوعب الانتاجات الأدبية الشابة. الأمر الذي يدفع بالبعض لقاء ذلك، إما إلى تحمل كافة تكاليف النشر والتوزيع، أو اللجوء إلى دور نشر أخرى خارج لبنان، مع ما يعنيه ذلك من مخاطرة.

«دار ملامح» المصرية و«دار الغاوون» اللبنانية من الدور التي أفردت مساحة هائلة لتلقف كل ما يسمى إنتاجاً أدبياً شبابياً. ويقول محمد الشرقاوي أحد مؤسسي «ملامح» إن «الدار لما بدأت كان هدفها دعم الشباب من العرب، والمصريين تحديداً، في نشر أعمالهم الأدبية التي تعبر عن هموم وهواجس وأصوات الجيل الجديد. ولان إصداراتنا قليلة، فنحن اعتمدنا نشر ألوان جديدة في الكتابة، فلا نكرر نشر نفس اللون من النصوص. أما المعايير فترتبط بجودة العمل الفنية».

في المقابل، عاشت الشاعرة سمر عبد الجابر تجربة سيئة مع «دار ملامح» المصرية، التي لجأت إليها «لأن تكلفة النشر في مصر أرخص منها في لبنان، خاصة أن اسمي جديد ولا سوق فعليا للشعر في لبنان». وتشرح: «ملامح مبادرتها جيدة لأنها تهتم بالكتّاب الشباب، وهو ما شجعني على النشر. لكن مشكلتهم أنهم يقعون في أخطاء لا اعرف أسبابها على وجه التحديد. فقد حصلت مماطلة في نشر ديواني، وفي إرساله إلى معرض الكتاب العام الماضي حيث الغي حفل التوقيع، وهو ما أثر عليّ سلباً. كما أن الديوان غير موجود في مكتبات كثيرة، ومن الصعب الحصول عليه».

وعلى الرغم من أن الدار أفسحت مؤخراً المجال لدخول الشباب من قلب فلسطين المحتلة إلى معرض بيروت للكتاب، يبدو أن لدى الدار أزمات سوف تظل مستمرة لأسباب عدة تستوجب الحلّ، منها أن «الدار يعتمد على مجهود أربعة أشخاص، وتغيّب فرد منهم يخرب العمل برمته»، كما يقول محمد الشرقاوي.

أما لـ«دار الغاوون» ومركزها الولايات المتحدة فقصة أخرى. كان لمؤسسها الشاعر ماهر شرف الدين تجربة مع دور النشر اللبنانية، التي لم تنشر أولى كتاباته الشعرية، فقرر تأسيس دار تكفل باستيعاب الألوان الأدبية الجديدة التي يعبر عنها الشباب في الرواية والقصة والشعر (الذي يستحوذ على نسبة كبيرة من إصدارات الغاوون رغم ضيق سوق مبيعات الشعر). الدار التي تنشر لشعراء من مختلف البلاد العربية، بلغت نسبتهم ما يربو على 50% من مجمل إصدارات الدار لهذا العام، كما يقول وائل شرف الدين مسؤول مكتب الدار في بيروت. أما هذه الإصدارات فهي في اغلبها بواكير شعرية لشعراء شباب نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، سمر دياب من لبنان، مجاهد آدم من السودان، فادي سعد من سوريا، إضافة إلى زهرة مروّة التي سيصدر ديوانها «جنّة جاهزة» قريباً، بمبادرة تشجيعية من الدار. وتقول مروّة «لقيت تعاوناً ممتازاً من رئيس الدار ماهر شرف الدين، الذي قبل نشر ديواني فور قراءته، وكان سيدرج من بين الإصدارات الجديدة للغاوون في معرض الكتاب، لكن مماطلة من قبل المطبعة أخرّت صدوره!».

 

السفير