الحبر والدم

والغريب في أمر الحروب أنها تستهلك موارد البشر، المبنيّة والنابتة عبر مئات السنين، في لحظة واحدة... وترتفع البيارق على خرائب المدن، ومقابر البشر. ولقد اخترعت اللغة أسوأ كلمة على وجه الأرض اللغوية- بتلبيسها أفدح معاني الجلال، وهي كلمة: النصر!
مثلاً: انتصرت ألمانيا واليابان وإيطاليا، في الحرب العالمية الثانية- القسم الأول منها.. بخمسين مليون قتيل. وانتصر الاتحاد السوفييتي بعشرين مليوناً. وبقية دول العالم دفعت أرواح الرقم المتبقي من تلك المجزرة الكونية.
العرب الحديثون: دفع صدام مليون قتيل في حربه مع إيران. ولإزاحته دفع العراق مليوناً ونصف المليون. والأرقام في ليبيا مخيفة! أما الأموال فهي تكفي لبناء نصف الكرة الرضية الفقير والمعدم (ليبيا تحتاج إلى 600 مليار دولار لإعادة الإعمار وبناء الدولة).
ما زلنا في مديح الحروب وهجائها... والجملة الرهيبة في وصفها «سهل أن تبدأها. صعب أن تنهيها، مستحيل أن تنساها»... هي جملة تلخيصية لا تنطبق على الأنواع المبتذلة والحقيرة والكارثية من الحروب الأخرى... كالحرب الأهلية.
الحرب الأهلية عكس الحرب الأخرى... لا تحتاج إلى عبقرية علماء، بل إلى جحشنة أفراد، ولا إلى عظمة قادة، بل إلى عناد البغال. ولا تكترث بشجاعة الجنرال.. بل بفاعلية المجزرة التي يراها مفيدة لناره المستعرة!
الحرب الأهلية أسلحتها تبدو بسيطة: حقد صغير هنا، ظلم متنام هناك. نقصان في بيئة الحياة الكريمة. تمييز عنصري. خلاف ايديولوجي. طائفية مستترة. هويات صغرى لم يكتمل نموها. لصوص محترفون ورسميون. ثقافة عدم تسامح. عنف مكشوف وغير قانوني. ميليشيا مستترة ذات نفوذ خارج القانون... (يمكن الإسهاب في بيئة الحروب الأهلية). ولكن الأهم أن هذه الأسلحة البسيطة فتّاكة، بصورة مذهلة، رغم أن الأداة الحربية لا تحتاج إلى دبابة ولا طائرة ولا مدفع... كما في الحروب النظامية بصفة أفراد. شارع ما. مدينة، أو حي من مدينة. بستان زيتون. طريق. أي وجود بشري، هو موضوع للحرب الأهلية وهدف لها! وثمة مهرّب أسلحة، ومموّل شراء. وهذا بيت القصيد!
بصرف النظر عن كل خلفيات الحروب الأهلية، وتعدد أشكالها وأسبابها، هي في نهاية المطاف... «تجارة دم!» بالمعنى الحرفي للكلمة... تجارة بالدم، وفقط لا غير!
الحرب الأهلية تعني: أخ يقتل أخاه: تعني أن كل طلقة باتجاه أي شخص، في وطن واحد، هي تجارة دم. وهذا يعني انتفاء وجود الملائكة، والمناضلين، والشرفاء في هذا الميدان القذر!
وإذا كانت الحروب الأخرى، هي ممارسة السياسة بالمدفع فإن الحروب الأهلية هي المدفع فقط لا غير هي صاحبة الاختصاص الوحيد غير الموجود في الحروب النظامية... القصف العشوائي. وهو بالطبع، لا يحتاج إلى مهارة، بل إلى.. عميان!...
أنا.... سأضع، مساهمةً مني: «نقطة حبر» على السطر!