الحق على التعليم

خيري الذهبي - تشرين
منذ نحو ثلاثين سنة أصدر الروائي الكبير هاني الراهب روايته الجميلة، التي أسماها (الوباء) وكانت الرواية مفاجأة لمن تابع نشاط الراهب الروائي الذي بدأه في سن مبكرة برواية (المهزومون) والتي صدرت أثناء فترة الانفصال.
وقد قام في هذه الرواية بقراءة مسيرة أسرة في قدومها من الريف مخترقة المدينة بالعلم، ولكنه وكواحد من جيل كسرت أحلامه الوحدوية بالانفصال الذي مزق الوحدة العربية الأولى بعد سقوط الدولة العثمانية لم يستطع إلا أن يكتب هذه الرواية، وكان سهيل إدريس صاحب دار الآداب للنشر وصاحب مجلة الآداب قد أعلن عن جائزة لأفضل رواية، فتقدم هاني بروايته وحاز جائزة الآداب، وكان سهيل إدريس عروبي الهوى، فصادفت الرواية هوى في نفسه وفي هوى المحكمين ممن جرحهم الانفصال، وفازت الرواية بجائزة دار الآداب وهي الجديرة بامتياز، ثم تتالت روايات هاني الراهب قارئة حياة الناس بعد سقوط الانفصال وقيام حركة الثامن من آذار فقرأنا له مأساة التمزق في وجدان الشباب في ذلك الحين في رواية (شرخ في تاريخ طويل)، ثم قرأنا له روايته المهمة (ألف ليلة وليلتان)، وكان هاني مخلصاً تماماً لقضايا جيله وتمزقه وبحثه عن الحل لمأزق البلد بعد الهزيمة الشهيرة في العام 1967، وقد وجد الحل في الحركة الفدائية الفلسطينية، كما عبر عنه في هذه الرواية وأعني (ألف ليلة وليلتان)، وكانت (الفلسطينية) قضية أساسية في الوجدان السوري، فسمى المناضل الذي جعله البطل الإيجابي في الرواية (إمام) ولهذه التسمية دلالتها الواضحة، وطبعاً كان في هذه الأثناء قد أوفد إلى بريطانيا وحاز شهادة الدكتوراه في الأدب الإنكليزي وكان موضوعها الشخصية الصهيونية في الرواية الإنكليزية.
في رواية (الوباء) دخل هاني في صلب التوق الاجتماعي السوري وكانت الوسيلة المتاحة للفقراء للرقي الطبقي والخروج من عبودية الأرض والدخول في المعاصرة هي التعليم، وهذا شيء جميل لو أن التعليم استخدم الطرق الطبيعية والحداثية.
وكانت مصر قد خسرت المناهج التعليمية الحداثية التي تختلف تماماً عن المناهج الأزهرية، الوسيلة التعليمية الوحيدة قبل محمد علي، استعار محمد علي إلى مصر من فرنسا أعظم مناهج التعليم في ذلك الحين وهي مناهج (البولي تكنيك) التي أسماها (المهندسخانة) والتي خرَّجت أعظم الباحثين والعلماء الذين اكتشفوا إفريقيا السوداء ووضعوا الخرائط لها وأسسوا في مصر الجمعية الجغرافية التي نافست الجمعية الملكية البريطانية، ولكن ورثة محمد علي الضعفاء أخذوا في إهمال هذه المدارس حتى كان الاحتلال البريطاني الذي كان أول ما قام به إلغاء هذا المنهج الحداثي واستبداله بمنهج مستشار التعليم الاستعماري دنلوب القائم على التحفيظ وتخريج الكتبة الذين سيملؤون فراغات المكاتب ووظائف الدولة.
ولما استقلت سورية عن فرنسا قامت بحركة انتحارية رمزية حين أحرق بعض المتحمسين الكتب الفرنسية وكان عدد كبير من المعلمين الفرنسيين قد رحلوا مع الجيش الفرنسي المحتل، فقامت سورية لتعويض النقص في المعلمين باستقدام عدد من المدرسين المصريين المشبعين بمنهج دنلوب التحفيظي معادي العقل والمخبر والتجريب، فأخذت المدارس والإدارات بإهمال دروس الرياضة والموسيقا والرسم وتحويلها إلى دروس للحفظ والبصم ثم تعاملت مع المخابر القليلة أصلاً بقليل من الاهتمام، ولما كان البلد يشهد نمواً سكانياً هائلاً بعد اكتشاف الأدوية التي أوقفت وفيات الأطفال وكان الوضع الاقتصادي قد تحسن نسبياً بعد الثورة الزراعية والصناعية, فقد ازدادت الحاجة إلى الكتبة أي الموظفين الذين حفظوا دروسهم جيداً فنجحوا في الامتحانات وامتلأت دوائر الدولة بهم.
في رواية الوباء قام هاني بمتابعة هؤلاء الذين نجحوا في دراساتهم البصمية ليحصلوا على الثانوية، وكان الفرح الأكبر في قبولهم طلاباً في الكلية العسكرية، فهذا القبول سيعني تحررهم الكامل من الأرض والفلاحة والفقر و... ربما عنى أيضاً الوصول إلى الحكم، وعلينا ألا ننسى فترة الانقلابات العديدة في تلك الفترة.... طبعاً حفلت الرواية بقصص الحب الفاتنة والمغامرات العشقية الساحرة ولكن أهم ما فيها في نظري هو متابعته لهؤلاء البصامين الذين لم يدربوا على إعمال العقل والتجريب، بل على الذاكرة فقط، فلم يغير التعليم شيئاً في قراءاتهم للعالم.
وحين تتم الاستقلالات العربية الكثيرة في الجزائر وليبيا والمغرب والسعودية واليمن ستتم الاستعانة بالمعلمين المصريين والسوريين الكثيرين لكي ينقلوا منهج دنلوب البصمي إلى العالم العربي وربما كان هذا ما يفسر تشابه الأوضاع السياسية في العالم العربي .