الحلوة دي قامت تعجن...

 

هيام حموي. البعث

"نحن في القرن الحادي والعشرين. بالتحديد في العام 2010. السلطة الكونيّة بيد كمبيوتر عملاق يستشيره المواطنون في كل شاردة وواردة، اكتظاظ السكان أصبح خانقاً إلى أقصى الحدود، وأرغم السلطة الكونيّة الواحدة على فرض قوانين صارمة لتنظيم ازدياد السكان، أناس مشردون لا سكن لهم سوى الشوارع، مجموعات من العصابات الإرهابيّة متخصّصة بالقتل المجاني تعيث خراباً في الأرض، والتخصّص في العلوم بات السمة الأساسية للمعرفة، بحيث لم يعد أحد قادراً على إيجاد تصوّر شامل لأي فكرة أو موضوع إلى درجة أن المؤسّسات الكبرى باتت بحاجة إلى خبراء "متخصّصين في العموميات"، توظّفهم بأجور خياليّة مهمّتهم الرئيسيّة فقط ربط المعلومات فيما بينها بحيث يصبح لها معنى ومغزى...".

 


هذا هو الخط الذي اعتمده الكاتب البريطاني جون برونر لروايته الصادرة عام 1968 بعنوان "كلنا في زنجبار"، وقد اعتبرها البعض من أكثر روايات الخيال العلمي التي استشفّت المستقبل بذكاء، لكن يبدو أنها تفوّقت على غيرها من الروايات التي تنتمي للفئة ذاتها بسبب اعتمادها على تحليلات علميّة في مجال الاقتصاد والاجتماع والسياسة قبل وضع تصوراتها لمستقبل كان يبدو بعيداً، لكنه استقر بأسرع مما كان متوقعاً، وبنسبة كبيرة من الدقة.

 

 


قد تجدر الإشارة إلى أن الرواية التي تُرجمت إلى العديد من اللغات العالمية، ولم تكن العربية من ضمنها، نالت من الجوائز ما يثير حسد عشرات الروايات الأدبية التي صدرت قبلها وبعدها، لكن المقصود من الإشارة إلى هذه الرواية، ونحن اليوم في مطلع العام 2012، ليس إثبات صواب توقعات كتّاب ستّينيات القرن الماضي أو عدم صوابها، وقد كانت مبنية على فرضيات تغذّيها مخاوف اقتراب سنة الألفين، وإنما للتركيز على بزوغ مهن جديدة وانقراض أخرى...

 


مهنة جمع الأفكار المتناثرة هنا وهناك، واستنباط الخيط الرفيع والذكي الذي يجمع فيما بينها، بحيث تصبح مفيدة للمجموع، مهّمة تكاد تقترب من إبداع الشعر الحقيقي، فالكلمات ملقاة على قارعة الأبجدية في كل اللغات، لكنّ الشاعر المبدع هو من ينجح في ترتيب هذه الكلمات بطريقة تفتح أبواب الذهن الموصدة على آفاق تجعل المتلقي يشعر عند اكتشافها أن الحياة أرحب، وأن الجدران العازلة بينه وبين الكون قد تزحزحت.

  

 


هي مهنة نادرة الانتشار في المؤسّسات الحكوميّة الرسميّة في مختلف بلدان العالم، وإن كانت موجودة، تحت مسمّيات أخرى، في غرف تخطيط المؤامرات السوداء داخل بعض أجهزة الدول التي تخطّط للهيمنة على مقدّرات الكيانات الأخرى، دون أدنى إحساس بالذنب، بما أنها، في عرفها الأخلاقي، تعمل لخدمة الجهات التابعة لها.  

 


وفي معرض الحديث عن المهن، نُشر استطلاع طريف في إحدى المجلات الفرنسية حول أغرب المهن، فجاءت في المقدمة مهنة "مختبِر رفاهية الأسرّة" (جمع سرير) ومهنة متذوّق الحلوى، وهناك مهنة تسمّى "الأنف" أي أن مُحترِفَها يمتلك حاسة شمّ متفوقة فيوظّف هذه الميزة عند الشركات الكبرى لصناعة العطور الفاخرة...

 


غير أن اللائحة النهائية التي يمكن الاطلاع عليها من خلال أي محرّك بحث، لم تتضمن مهنة تبدو شديدة الغرابة من وجهة نظر شخصيّة، انتشرت في الهيئات الرسمية الغربية، وغزاها العنصر الأنثوي بكثافة في السنوات الأخيرة، فهي توفر، من جهة، للواتي يحترفنها، الأجر العالي، كما تحقّق لهن نسبة كبيرة من نفور المواطنين في البلدان البعيدة، ويتلخص  التوصيف الوظيفي لهذه المهنة بأن تصحو  السيدة في الصباح الباكر لترتدي ثيابها الأنيقة وتضع ما يتيسّر من مستحضرات التجميل بحيث تبدو مقبولة بالرغم من حقد النظرة التي تطل من العينين واصفرار البسمة على الشفاه، ثم تقف أمام جمهرة من الصحفيين والمصوّرين لتوزع شهادات شرعية وحسن سلوك على أشخاص لم تلتقِ بهم في حياتها ولم يفعلوا شيئا يمسّها أو يمسّ أحداً من ذويها أو أقربائها أو بلدها. ثم، تحيّي الحضور وتنسحب عابسة برشاقة، بانتظار ظهورها التالي المماثل...

  

 


في هذه الأثناء، مجموعة صبايا جميلات بلا مساحيق من ريف الشمال، من شمال بلادنا، تطوّعن لتشغيل فرنٍ احتياطي في مدينة دير الزور بمعدل ورديتين يومياً، بدءاً من العجن وليس انتهاءً بالبيع، لمجرد أن الوطن بحاجة إليهن...


فهل أجمل وأنقى من هذه المهنة، مهنة "الحلوة دي..."؟!.