الحوار المنشود

 

كانت دعوة كريمة تلقيتها من رجل كريم من رجالات البلد يدعوني فيها إلى المشاركة في لجنة الحوار حول مستقبل البلد، وعن الطرق الممكنة التي يمكن فيها أن نعبر بالوطن إلى بر الأمان، وأعجبتني الفكرة، فالحوار بين عقول وقلوب البلد كان دائماً رغبة قوية من رغباتي، فالبلد لا يمكن أن يقاد بالأوامر الفوقية فقط، وافقت مبدئياً على هذه المشاركة.

ولكن الليل جاء، والحوار الداخلي يلح، فمن أنت، وباسم من تحاور، أنت لست ولم تكن يوماً عضواً في حزب، أي حزب لتنطق باسمه، وتعلن برنامجه، فباسم من ستحاور، وأنت بطبيعتك منعزل ونادراً ما حاورت الناس إلا عبر منبر المحاضرات، وهذا عادة ليس بالحوار، فهو إملاء وتلقٍ.

 هل تعرف شعبك وما يريد معرفة حقيقية لتتقدم بمطالبهم أمام المتحاورين. وقلت لنفسي أصغي إليهم في الفضائيات لأسمع ما يعلنون وما يريدون وإلى أين يريدون نقل البلاد، وشاء سوء حظي أن أستمع إلى واحد يسمي نفسه رجل دين وكان يلتحي لحية مصبوغة بالحناء، وكان يرغي ويزبد في عامية ويعلن ببساطة وجوب الحرب الأهلية، فنفرت منه ومن المحطة لاعناً، وأقفلت التلفزيون معاهداً نفسي على أن أجره إلى القضاء حالما تهدأ الأمور، فجريمة الدعوة إلى الحرب الأهلية المقنعة بالطائفية أو المناطقية أو أي اسم آخر جريمة لا تغتفر.

ولم أستطع الابتعاد عن التلفزيون طويلاً، ففتحته على محطة أخرى، كان المذيع يحاور رجلاً خلا له الجو فباض وصفَّر، وأخذ يهرف مغالطاً التاريخ والجغرافيا والانثروبولوجيا مطمئناً إلى أنه ليس هناك من يكذبه أو يرد عليه، وكان أبشع ما قال أن ادعى أن أهالي بلدة من بلدات الشمال السوري هم من سهلوا للبيزنطيين دخول سورية، وأنهم كانوا الأدلاء لهولاكو التتري في غزوه عمق سورية. بل بلغ من إعجابه بهولاكو الادعاء بأن هولاكو كان مثقفاً كبيراً وعالماً بالفلك والرياضيات، وأنا كمهتم بالتاريخ لم أقرأ حتى لمؤرخه رشيد الدين الهمذاني الادعاء بأن هولاكو كان هذا العالم.

صحيح أنه قد استعان بالعالم المسلم الطوسي الذي رأى فيه إمكانية المساعدة في إنشاء مرصد مراغة، فإن كان هذا دليلاً على علمه الكثير إذن علينا أن نقر بأن النورماني روجر غازي صقلية الإسلامية والذي استعان بالعالم الجغرافي الإدريسي هو عالم كبير أيضاً. ‏

على أية حال ما يهمنا الآن ليس هولاكو، ولكن جرأة هذا الرجل على جزء مهم من بلدنا واتهامه بالخيانة في مرحلة تاريخية غامضة قد غطيت بالحكايات الشعبية وما أكثر ما استخدم منها في الجدليات الطائفية البغيضة. أعوذ بالله, صرخت وأنا أبتعد عن التلفزيون مقسماً بأن أجر هذا الرجل إلى المحكمة حالما تهدأ الأمور عارفاً بأن أمثاله لو جرُّونا إلى مأزق تخوين أي إقليم، أو مجموعة سكانية مصغين إلى تهم التاريخ الشعبي التي لا دليل أبداً على صدقها لفجرَّنا ذواتنا ودمرَّنا تاريخنا ومجتمعنا. ‏

فتحت التلفزيون بعد ذلك على محطة لا عادة لي بالاستماع إليها وكان ضيف الحوار رجلاً في أواخر الثمانينيات ولكن لهجته أمسكت بي، ولغته التي شممت منها رائحة سورية شدَّتني لمعرفة هوية هذا الشخص. كان يتحدث عن سورية بلد الجميع، بلد الطوائف والأديان والأعراق لا تميز بين فرد وفرد إلا بمدى خدمته للمجتمع. ‏ كان يهاجم بقسوة كل من يدعو إلى فتنة أو حرب طائفية لن تنجب إلا الدمار للجميع. كان يتدفق بلغة مضى عليَّ زمن لم أسمع لغة بنقائها، إنها لغة مثقفي الخمسينيات والستينيات، وربطني الفضول إلى المحطة: من هذا الرجل واضح السورية؟ أهو واحد من آل الجندي الذين ملؤوا أسماء سورية جمالاً وعروبية في ستينيات القرن الماضي؟ واستعرضتهم اسماً فاسماً، ولكنهم كانوا جميعاً قد انتقلوا إلى لقاء ربهم، وتكرر السؤال: فمن إذن؟ بدوي الجبل؟ نديم محمد؟ عبد اللطيف يونس؟ ولكني تذكرت آسفاً أنهم جميعاً قد مضوا إلى حيث لا يرجع من مضى.

وقفز أمامي الشيخ العامي الذي كان يدعو بجرأة تصل إلى حد الجريمة إلى الحرب الأهلية، وكان الفارق بين الرجلين مذهلاً، رجل عامي اللغة والفكر والروح والحقد، ورجل عركه الزمان والشوق إلى الوطن فأعلن ديمقراطيته، وعاد السؤال إلى الإلحاح. من أنت؟ من أنت أيها السوري الذي لا أعرفه؟ وبهدوء انتهى الحوار ولم أعرف الرجل, ولكني تأكدت أنه واحد من سياسيي ومثقفي الزمن الماضي. ‏

ولكن عاد التساؤل: لماذا كان هذا الفارق المريع بين الرجلين؟ وتسللت إلى الذاكرة تجربة انتخابات منتصف الخمسينيات حين دعي الشعب إلى ما يسمى بانتخابات الإعادة، وكان المرشحان المتنافسان رياض المالكي شقيق الشهيد عدنان المالكي، ومصطفى السباعي سكرتير «الإخوان المسلمين»، وكان أجمل ما في هذه الانتخابات أنَّ مسيحيي دمشق انشقوا إلى شقين، شق اختار المالكي مرشحاً له، وشق اختار مصطفى السباعي مرشحاً. لم تكن الانتخابات ملوثة بالتأزم الديني، أو الطائفي، بل كانت انتخابات سياسية، بالمعنى الحرفي لكلمة سياسية. ‏

وبهدوء تسللت الإجابة (لكل زمان معارضته) و..... تقدم الاقتراح متسللاً، فلم لا ندعو إلى الحوار كل أحرار سورية ومثقفيها من الأكاديميين والخبراء السياسيين الذين اجتذبتهم جامعات الغرب إليها فجعلوا من سورية هدفاً فوق الطائفية والعرقية والعشائرية بدلاً من حوار نخاطب فيه مرآتنا وصورتنا على التلفزيون في تجمع افتراضي نؤلفه ونصنعه على مزاجنا، ثم نقنعه فيقتنع كما نريد له الاقتناع، وبذا نكون كما قالوا فيما مضى: كأنك يا أبا زيد ما غزيت، ونعود إلى المربع الأول أمام حوار لا نحاور فيه الخصوم، بل الأصدقاء والمريدين فقط.‏

 

خيري الذهبي - تشرين