الخليج الاماراتية - عبد الحسين شعبان - سلطة المعرفة وتفتيش الضمائر

أخيراً غادرنا بصمت المفكر المصري نصر حامد أبوزيد، الذي أثار عاصفة من السجال والجدال طيلة عقدين من الزمان . اختفى مثل شهاب وهو الذي شغل الصحف وأروقة الجامعات وباحات الجوامع وقاعات المحاكم، بالأخذ والرد، والتأييد والتنديد، والمقدّس والمدنس، لما كان قد اجتهد فيه من قراءة تأويلية للنص الديني .
تم تكفير نصر أبوزيد وأصدرت إحدى المحاكم المصرية قراراً قضائياً تحت باب ما يسمى بالحسبة، لتفريقه عن زوجته السيدة ابتهال يونس، وأتذكر أن الموقف النقدي من حرية التعبير وحرية البحث العلمي منذ أواخر الثمانينات، وبشكل خاص في التسعينات كان أحد هموم ومشاغل الحركة العربية لحقوق الإنسان، وقد أثار قرار المحكمة المصرية بخصوص أبوزيد الذي هو أقرب إلى قرارات محاكم التفتيش في القرون الوسطى، نقاشاً وحواراً بدأ ولم ينقطع برحيله .
ورغم التحرك العربي ضد القرار، فقد اضطر نصر حامد أبوزيد، وفي ظل موجة تكفيره أو اتهامه بالمروق والارتداد، إلى الرحيل ووجد في إحدى جامعات هولندا (لايدن) مكاناً أميناً يعبّر فيه عن آرائه وأفكاره التي ضاقت بها القاهرة والعالم العربي، ومع كل ذلك فقد ظل يتطلع إليه، حتى إنه وهو يعاني من أثر فايروس أصابه في إندونيسيا التي كان يزورها بمهمة أكاديمية، فلم يفكر سوى بمصر، التي عاد إليها محمولاً على نقّالة مستشفى ليقضي آخر أيامه في القاهرة، وليرحل بعدها عن دنيانا . ورغم غيابه “اليوم”، إلاّ أنه كان أكثر حضوراً، وربما سيبقى لسنوات وعقود يعيش معنا وبعدنا، وسيُذكَر كلما جرى الحديث عن حرية التعبير وحرية البحث العلمي، وحركة التنوير .
أتذكر أننا اشتركنا معاً في محاضرة عن المفكر والباحث التراثي هادي العلوي بعد رحيله الذي كان يقدّره كثيراً، مثلما يقدّر أبوزيد، العلوي، وكان معنا الدكتور كاظم حبيب، والناقد ياسين النصيّر الذي أدار الأمسية الاستعادية النقدية عن هادي العلوي .
يمكنني القول إن مشروع نصر حامد أبوزيد هو جزء من مشروع التجديد الفكري للخطاب الديني، وأهم ما فيه أنه، رفض أن ينضوي تحت لواء السلطات القائمة أو يهادنها، سواء كانت سلطة الغوغاء التي تحركها أوساط سياسية أو دينية أو تقليدية معينة ولأغراض دينية أو غير دينية، أو سلطة المؤسسة الجامعية التقليدية، التي استعاضت عن العقل والحوار والجدل، بمسلمات ومقولات واجترار أقرب إلى التقديس .
حاول أبوزيد نقد “الثابت” و”الجامد” و”المتوارث” لاسيما من رثّ المفاهيم، مثلما سعى إلى تحريك الساكن والمستقر، في إطار الإنارة العقلية، خصوصاً أن مجتمعاتنا عانت من التآكل والركود، لدرجة أن الصدأ والتكلس أصابا الكثير من مفاصل الحياة الفكرية والثقافية . هكذا حاول حمل لواء التنوير من خلال محاضراته الأولى في الجامعة، إلى أن تبلور مشروعه الفكري باعتباره ينتمي إلى المدرسة العقلية في الثقافة العربية الإسلامية، ولا شك في أن هذه المدرسة أسهمت مساهمة جدّية في ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، خصوصاً في عدم الأخذ بالتفسير الأحادي للنص القرآني، ولعل ابن رشد كان أحد أبرز رواد الاتجاهات العقلانية في ثقافتنا .
ومن الإضافات المهمة لأبي زيد أنه كان من دعاة فصل الدين عن السياسة، معتبراً أن العلمانية التي تقول بفصل الدين عن الدولة، ليست إلحاداً، لكنها عملية إجرائية ضرورية لفصل الدين عن السياسة، وهذا لا يعني فصل الدين عن المجتمع أو الحياة، فالدين على مساس وثيق بالمجتمع وحياة الناس ولا يمكن فصله عنهما، كما دعا أبوزيد إلى تحرير المرأة مُعلياً من شأن الكرامة الإنسانية، التي يُفترض أن تقوم عليها الدولة العصرية التي تستند إلى مبادئ سيادة القانون والمواطنة والمساواة والعدل .
لا تزال مسألة التأويل لم تكتسب شرعيتها في فكرنا العربي المعاصر، باعتبارها فعلاً منطقياً، لأنها تذهب إلى المقاصد والدلالات وتدخل في إثبات العقائد والضلالات، الأمر الذي قد يجعلها تبتعد عن الشريعة، في تجاوز المعنى الظاهري من الأشياء، ويعتبر أبوزيد أن الصيغة الشمولية للنص وتعددية آفاق قارئيه، هي التي تجعل التأويل المجازي ضرورياً، وهو ما حاول بحثه في كتابه “الخطاب والتأويل”، لاسيما علاقة المثقف بالسلطة، وهذا الكتاب هو امتداد لكتاب “مفهوم النص” والذي كان السبب في تكفيره، ولعل ذلك يذكّر بكتاب علي عبدالرازق “أصول الحكم في الإسلام” الذي صدر العام 1928 وجرى تكفيره والهجوم عليه إلى أن تراجع عنه أو عن بعض أحكامه لاحقاً .
كان نصر حامد أبوزيد ميّالاً إلى حداثة خاصة في قراءته للنص من خلال توظيفه في عملية تأويل شملت حتى النصوص “المقدسة”، عبر تحليل تاريخيتها، الأمر الذي خاصمه فيه المتعصّبون والمحافظون، واعتبروه خارجاً على الإسلام، في حين أنه حاول أن يقدّم قراءات مختلفة لما هو سائد، لاسيما أن قراءته هي الأخرى اجتهادية وتحتمل النقد والجدل مثل أية قراءة أخرى .
وبشجاعة واجه أبوزيد المحكمة حين رفض النطق بالشهادتين أمامها، معتبراً أنه ليس من حقها تفتيش الضمائر، وكان يرى أن إيمانه وكرامته لا يسمحان له بتقديم شهادة مبتذلة أمام جهة ليس من حقها مساءلته، وأن السؤال الوحيد والشرعي الذي يمكن أن يجيب عنه هو أمام الله، وليس أمام أحد آخر سواه .
لعل محاكمة أبوزيد واضطراره لاحقاً للذهاب إلى المنفى إحدى فضائح عصرنا العربي الرديء، فأين هي الحرية الشخصية؟ وأين هي حرية البحث والحريات الأكاديمية؟ حين تصدر محكمة قراراً بتطليق زوجة مفكر، لأنه اجتهد وفكّر واستخدم عقله، لتقديم تأويل عند قراءة نص معين، ولعل عمله اللاحق، ولاسيما في جامعة لايدن دفعه إلى تقديم قراءة مستنيرة للإسلام وللنصوص الإسلامية في وسط أكاديمي منفتح ساعياً لتأصيل العلاقة التاريخية بين العرب وأوروبا عبر العقل وعبر تجديد الفكر، بعيداً من روح الكسب أو الارتزاق أو استخدام الدين وسيلة لتمجيد الحاكم أو الحديث عن فضائل الغرب أو الطعن ببلاده ومجتمعه، وفي ذلك أحد الدروس العلمية والوطنية لمن يريد الاستفادة منها .
ظل أبوزيد حتى آخر أيام حياته متمسكاً بوسيلته الإبداعية، لا يريد أن يبارحها ماسكاً بسلاح القلم، سابحاً في بحور المعرفة من أجل تعميق وتجديد مدرسة العقل، تلك التي كان ابن رشد، أحد روادها الكبار في تاريخنا العربي الإسلامي، محاولاً إضاءة بعض الجوانب المعتمة في حياتنا الفكرية والثقافية، الراكدة والمستكينة، لاسيما اتجاهاتها المحافظة، التقليدية، خصوصاً أن التعثر والانقطاع والانصياع للسائد والمهيمن، سواء كان سلطة أو ثيوقراطية دينية أو غوغاء اجتماعية، كان سمة غالبة، للوقوف بوجه التجديد والعقلانية والتنوير، لكن سلطة أبوزيد وهو ما اتضح، لاسيما بعد وفاته، كانت فعّالة ومؤثرة، وستبقى كذلك حتى بعد غيابه، ونعني بها سلطة المعرفة حسب وصف فرانسيس بيكون “المعرفة سلطة” وهو لم يرغب في أن يتخلّى أو يتنازل عن سلطته وبالتالي عن حقه في قراءة حرّة واجتهاد مفتوح .
الخليج - عبد الحسين شعبان - 3 - 8 - 2010