الذكرى الاربعون للتصحيح

 

تؤكد الارقام التنموية ومؤشرات النمو الاقتصادي وتطورات الأحداث في المنطقة على مدى الأربعين عاما الماضية الدور المهم للحركة التصحيحية المجيدة التي قادها القائد الخالد حافظ الأسد في تطور سورية من دولة تتجاذبها القوى السياسية والاقتصادية إلى دولة مؤسسات تعرف كيف تصنع قراراها الوطني وتبني نفسها اقتصاديا وتنمويا وسياسيا منطلقة من مصالحها الوطنية وهويتها القومية بالاعتماد على مواردها الذاتية التي تضمن لها قرارا مستقلا على جميع المستويات.

وحسب وكالة الانباء السورية فقد وفر فكر التصحيح المعتمد على قوانين العصر مناخا مناسبا لاطلاق ورشة عمل على مستوى الوطن هدفها تأمين الأرضية المناسبة لبناء الدولة مع الاخذ بعين الاعتبار جميع المتغيرات وتنطلق في مسيرتها نحو المعاصرة من بناء الانسان الذي تعتمد عليه جميع اشكال التنمية فكان الاهتمام بالتعليم حيث اتخذت قيادة الحركة قرارا بجعل المدرسة في متناول كل طفل سوري في الريف قبل المدينة ليرتفع عدد طلاب المدارس من مليون و 282 ألف طالب عام 1970 إلى أكثر من 5 ملايين حاليا. وتجسدت الخطوة التالية على هذا الصعيد بالتركيز على التعليم ففي حين كان عدد جامعات سورية حتى بداية السبعينيات لا يتعدى الجامعتين وعدد كلياتهما مجتمعة لا يتجاوز 19 كلية ومجموع طلبتهما حوالي 37 ألف طالب وطالبة تضاعف اليوم عدد الجامعات وأصبح يشمل جميع المحافظات حيث احدثت جامعتا البعث في حمص وتشرين في اللاذقية ومن ثم جامعة الفرات في دير الزور وفروعها في الرقة والحسكة بالاضافة لافتتاح فروع للجامعات الاخرى في كل المحافظات وبلغ عدد المتقدمين للمفاضلة العامة 116195 طالباً وطالبة في دمشق وحلب وحمص واللاذقية ودير الزور وبلغ عدد طلاب الجامعات السورية الرسمية للعام الحالي في جميع السنوات والمراحل 700 الف طالب فيما سجلت الجامعات الخاصة نحو 30 ألفا.

وتعكس هذه الخطوات الاهتمام الذي اولته سورية لقطاع التعليم العالي كونه العنصر الأهم في النمو الاقتصادي لتطوير منظومة التعليم والبحث العلمي لتتمكن مخرجات هذه المنظومة من تلبية متطلبات التنمية الشاملة ومن هذا المنطلق وتلبية لتزايد الطلب على التعليم وتعزيزاً للمشاركة المجتمعية صدرت القرارات بمنح التراخيص للجامعات الخاصة وظهرت انواع جديدة للتعليم العالي والجامعي مثل التعليم المفتوح والموازي والافتراضي.

وانطلاقا من قاعدة أنَّ الأمم تقاس بثقافتها وفنونها أولت الحركة التصحيحية الثقافة والأدب والإبداع أهمية قصوى تتناسب مع مكانة سورية واطلق القائد الخالد مقولة الثقافة هي الحاجة العليا للبشرية وأصبح الاهتمام بالفنون والآداب بأنواعها عنوانا للحركة الثقافية في سورية واسست المراكز الثقافية في كل بلدة حتى وصل عددها إلى 441 مركزا ثقافيا وظهر الاهتمام بالشعراء والكتاب والفنانين والمبدعين ورعايتهم من قبل الدولة ايمانا بدور الثقافة في تقدم الأمم.

وعلى الصعيد الاقتصادي شهد الاقتصاد السوري منذ قيام الحركة التصحيحية تطورات تنموية بشرية واقتصادية هامة حققت نقلة نوعية في توجهات الاقتصاد وتعزيز قدراته بمساهمة كافة شرائح المجتمع واتخذت سورية نهجا ثابتا واستراتيجيا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية بارساء قواعد التعددية الاقتصادية التي تهدف الى افساح المجال امام القطاع الخاص ليوءدى دوره فى بناء عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية الى جانب القطاع العام انطلاقا من ان بناء الوطن مهمة وطنية تقع على عاتق الجميع وتأسيس قطاع مشترك لزيادة الاموال العامة والخاصة المستثمرة في القطاعات الاقتصادية المختلفة والتى اثبتت انها صيغة ناجحة للعمل الاقتصادي.

وكان للرؤية الاقتصادية الشاملة المبنية على تحليل علمي للاقتصاد العالمي المعاصر الذي تتحكم به اقتصاديات عالمية كبرى تقوم على الاندماج والعمل خارج حدود الجغرافيات المغلقة وقوانينه القائمة على التنافس والعرض والطلب والكتل الاقتصادية الضخمة وحركة راس المال والسلع بشكل حر عبر العالم دور كبير في وضع اسس جديدة للاقتصاد الوطني تحافظ على خصوصية المنتج السوري وترفع تنافسيته وتوسع من المشاركين في تطوير الاقتصاد الوطني وبدأت سورية تعزز شراكاتها الاقتصادية مع الدول الشقيقة والصديقة وتسعى لشراكات جديدة تفتح بها اسواقا واعدة في ظل قاعدة تشريعية وقانوية تحمي جميع اطراف المعادلة الاقتصادية بدءا من المستهلك وصولا الى المنتج والمصدر والمستورد سواء كان شخصا او مؤسسة .

وانضمت سورية الى اتفاقيات هامة منها اتفاقية المؤسسة العربية لضمان الاستثمار واتفاقية تسوية منازعات استثمار الأموال العربية عام 1970 وصولا الى قانون الاستثمار رقم 10 لعام 1991 وتعديلاته حيث نجح فى جذب عدد كبير من المستثمرين في قطاعات النقل والصناعة والصناعة الغذائية والزراعة وشهدت الاستثمارات تطورا ملحوظا حيث بلغ عدد المشاريع المشمولة وفق أحكام قانون الاستثمار رقم 10 لعام 1991 ومرسوم تشجيع الاستثمارات رقم 8 لعام 2007 بما فيها المدن الصناعية خلال عام 2009 219 مشروعا بكلفة استثمارية 4ر537 مليار ليرة سورية ومن المتوقع أن توفر 23235 فرصة عمل من اصل 207661 فرصة عمل ستوفرها المشاريع المشملة بين عامي 1991 و2008 وتؤكد إحصاءات هيئة الاستثمار أنه تم تحقيق 105465 فرصة مباشرة حتى الآن منها 66841 فرصة في القطاع الصناعي والقطاعات المرتبطة به.

ووصل حجم التكاليف الاستثمارية للمشاريع المشملة الى حوالي 9ر1607 مليارات ليرة سورية منها 8ر1280 مليار ليرة بالقطع الأجنبي وبلغت حصة العام الماضي من هذه التكاليف 4ر537 مليار ليرة أي ما نسبته 42ر33 بالمئة.

وحظي قطاع السياحة والصناعة السياحية باهتمام كبير نظرا لدوره الهام فى عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتوفير الموارد ذات الديمومة ورفع معدلات النمو الاقتصادى واتخذت الكثير من الاجراءات لجذب الاستثمارات السياحية اهمها حرية التملك بنسبة 100 بالمئة للمشاريع السياحية والسماح للمستثمر بتحويل كامل قيمة رأس المال وارباح التشغيل بالنقد الاجنبى الى الخارج بالاضافة الى الاعفاءات الضريبية والرسوم .

واستطاعت الخطط الاقتصادية في سورية على الصعيدين الداخلي والخارجي تحقيق معدلات نمو عالية هدف معظمها الى تحقيق تنمية صناعية سريعة وزيادة مساحات الاراضى المروية وتطوير البنية التحتية والخدمات الاجتماعية وشهدت هذه الفترة انفتاحا اقتصاديا على العالم العربى تبلور فى توقيع عدد من الاتفاقيات التجارية واتفاقيات لحماية وضمان الاستثمار وتشكلت لجان مشتركة مع عدد من الدول لتطوير العلاقات الثنائية وخاصة الاقتصادية والتجارية والاستثمارية منها واقامة منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى .

وتتويجا لكل هذا العمل حقق الاقتصاد السورى فى السنوات الماضية انجازات هامة تمثلت بالحفاظ على مستويات نمو جيدة وزاد الوسطى السنوى الحقيقى لنصيب الفرد من الناتج المحلى الاجمالى بنسبة 7ر1 بالمئة وكانت سورية من اقل الدول تأثرا بالأزمة الاقتصادية العالمية كما شهد القطاع المالي في ظل الحركة التصحيحية تغيراً واضحاً في مختلف جوانبه ويعكس تحسنُ المؤشرات المالية بشكل عام مدى النجاح الذي حققه هذا القطاع في سورية ويجري التركيز في السنوات الاخيرة على وضع الخطط لرفع نسب تحصيل الضرائب والرسوم والفوائض الاقتصادية وذلك لتحقيق توازن أفضل بين الموارد والإنفاق العام في الموازنة العامة للدولة وتأكيد مبدأ الاعتماد على الذات وصولا إلى مرحلة التوازن الاقتصادي وازداد حجم اعتمادات الموازنة العامة للدولة بمقدار 65 ضعفاً منذ عام 1970.

وكان للقطاع الزراعي نصيب مهم في خطط التنمية حيث حقق الإنتاج الزراعي تطوراً ملحوظاً خلال الفترة 1970-2006م في مجال إنتاج أهم المحاصيل والخضار والفاكهة وشهد الإنتاج تطوراً في السلع الغذائية القمح العدس الحمص البطاطا ليصبح اهم ما انجزته سورية منذ قيام الحركة التصحيحية تحقيق امنها الغذائى والتوصل الى الاكتفاء الذاتى فى انتاج الحبوب و تصدير الفائض منه بالاضافة الى التوسع فى الاراضى الزراعية وتنوع المحاصيل .

وتطور إنتاج الزيتون والتفاح والحمضيات نظرا لإدخال مساحات جديدة من خلال مشاريع الاستصلاح وترافق ذلك مع تطور استخدام المبيدات خلال الفترة الماضية كما عملت مديرية الوقاية على الاعتماد على المكافحة الحيوية والمكافحة المتكاملة لإنتاج زراعات نظيفة خالية من الآثار المتبقية وبدأت ثمار كل ذلك تظهر من خلال زيادة الطلب على السلع الزراعية السورية في الخارج وفتح اسواق التصدير امامها.

وحققت الثروة الحيوانية معدلات نمو إيجابية ووصلت اعدادها الى 14 مليون رأس من الغنم و 2ر1 مليون راس ماعز و 900 ألف رأس من البقر وحوالي 20 مليون طير من الدواجن محققة بذلك اكتفاء ذاتيا من اللحم والبيض والحليب ومشتقاته وترافق كل ذلك بانجازات مهمة على صعيد الخدمات الصحية والبيطرية واللقاحات من خلال تطوير مراكز الحجر الصحي والرعاية البيطرية وتأمين مستلزماتها بهدف المحافظة على الثروة الحيوانية وزيادة أعدادها ومنتجاتها وحمايتها من الأمراض المعدية والسارية.‏

واخيرا وليس آخرا فإن الدور الأبرز للحركة التصحيحية كان على المستوى السياسي حيث نقلت سورية من موقع المتأثر الى موقع المؤثر وعززت موقعها على الخارطة السياسية للمنطقة ومنذ الفجر الاول للحركة بدات تتكشف ملامح مرحلة وتاريخ جديد حيث اعيد الاعتبار للحياة البرلمانية من خلال مجلس الشعب و تجلت الرغبة بروءية حالة من التعديدية السياسية من خلال تجربة الجبهة الوطنية التقدمية وبني كل ذلك على اساس دستور جديد يأخذ بعين الاعتبار حقوق الفرد والدولة ويعطي مساحة من الحرية للجميع في اطار المصلحة الوطنية .

وكان للتضامن العربي الموقع الابرز في سياسة سورية القومية حيث حرصت على التواصل مع الاشقاء العرب لحفظ حقوق الامة وتنسيق المواقف بما يلبي طموحات الجماهير العربية ويحافظ بالدرجة الاولى على حقوق الشعب الفلسطيني انطلاقا من مركزية القضية الفلسطينية وتجلى ايمان سورية عقب التصحيح بالتضامن العربي في حرب تشرين التحريرية التي اسفرت عن تحرير جزء هام من الاراضي السوية المحتلة وعلى رأسها مدينة القنيطرة وإعادة الاعتبار للمقاتل العربي وثقته بالنصر وهنا انتهجت الحركة سياسة ذات بعد قومي ونضالي.

وعلى الصعيد الدولي وضعت الحركة التصحيحية سورية في موقع مرموق وأصبح لزاما على كل من يفكر بقضايا الشرق الاوسط ويبحث عن دور له فيها ان يأتي الى سورية ليعرف ما لديها ومن خلال علاقاتها الدولية الواسعة استطاعت سورية ان تعزز موقعها وتحافظ على المصالح الوطنية والقومية وتتجنب تأثيرات الأحداث الكبرى وتخرج رابحة في اصعب الظروف والمراحل. وتميزت السياسة السورية حسب المحللين واصحاب الرأي في هذا الشان بالبعد الاستراتيجي لسياستها الخارجية القائم على العقلانية وعدم المبالغة او الانجراف مع مجريات الاحداث حيث نجحت سورية بقيادة السيد الرئيس بشار الأسد خلال السنوات الاخيرة ببناء شبكة علاقات دولية مستفيدة من تجارب المرحلة الماضية واستطاعت تعزيز علاقاتها مع دول مهمة في المنطقة وعلى رأسها تركيا التي اصبحت علاقتها بسورية مثالا للعلاقات بين الدول بالاضافة الى العلاقات المتميزة مع عدد من الدول الاوروبية ودول امريكا اللاتينية والدول الاسيوية اضافة الى تعزيز وجودها في المنظمات الاقليمية ايمانا منها بحتمية العمل الجماعي في المحافل الدولية لايصال صوت الامم الناشئة والنامية والحفاظ على الحقوق الوطنية والقومية.

ويعلم كل مطلع عن كثب على الأحداث التي شهدتها المنطقة خلال السنوات العشر الاخيرة والتي تجسدت باحداث الحادي عشر من أيلول ومن ثم احتلال افغانستان والعراق والانتصارات التي حققتها قوى المقاومة العربية ضد الاحتلال الاسرائيلي في لبنان وقطاع غزة ان السياسة السورية كانت الانجح والاكثر قدرة على القراءة الصحيحة للاحداث وفك تشابكاتها وفهم التباساتها حيث تعاملت معها بحنكة سياسية اعترف بها الاعداء قبل الاصدقاء .

و كان للوضوح السوري في تحديد العدو والصديق والثبات على المواقف والتمسك بالمبادئء الوطنية والقومية وتعزيز علاقات مؤسسات الدولة بكل مستوياتها مع المواطنين والتعامل معهم بمصداقية عالية من قبل صانعي القرار بالاضافة لمنظومة العلاقات الدولية التي بنتها الدبلوماسية السورية بروية الدور الأبرز في الحفاظ على موقع متميز لسورية في قلب الشرق الأوسط الذي شكل مسرح الاحداث على مدار عقود من الزمن .

وأن تعيش دولة مثل سورية في منطقة مضطربة من العالم كمنطقتنا وتواجه كل هذه التحديات ومحاولات الضغط والتهويل احيانا والترغيب احيانا اخرى وتبقى محافظة على دورها الاقليمي بل وتعززه فهذا خير دليل على ان هناك قواعد صحيحة وعلمية بنيت عليها السياسة السورية حيث لم تتعامل في أي مرحلة بانفعالية مع الأحداث بل حافظت على توازنها وانطلقت في رسم خطواتها من قوانين الجغرافية السياسية والتاريخ فهي لم تعاد إلا العدو وبقيت مدركة ان معركتها الاولى و الاخيرة مع اسرائيل التي تحتل الأرض وترفض أي شكل للسلام وتزداد تطرفا يوما بعد يوم .