الذين لا يحاولون قراءة الرسالة

لقد استطاع سعد الله ونوس باستثماره لهذه الحكاية.. أن يعيد إلى أذهاننا الطرائق العجيبة والغريبة التي يلجأ إليها الطامعون في الوصول إلى السلطة, بأساليب تفزع المعاصرين واللاحقين. وبأن هؤلاء الطامحين.. في أساليبهم وجبلّتهم وحيلهم, ليسوا أقل سوءاً من السلطة الباغية التي يرغبون في القفز عليها وتقويضها.
تتحدث المسرحية عن محاولة عجيبة قام بها الوزير العلقمي للانقضاض على السلطة الغاشمة, وذلك بإرسال رسالة سرية إلى هولاكو الممعن في حصار بغداد, يبلغه فيها أنه سيعينه على دخول بغداد إن ضمن له أن يتسلم الحكم بدلاً من الخليفة المتهافت والمحاط بالترك والفرس والغرباء الطامعين.
ولأن إرسال الرسائل صعب في زمن الحصار, ولأن كشف الرسالة عبر تفتيش حاملها عند اجتياز البوابات والأسوار يودي بالحامل والمحمول, والمرسل والرسول إلى الموت الزؤام, بسبب خطورة مضمون الرسالة.. هذا المضمون الذي يقرب مرسلها من الخيانة والموت الذي يخشاه الجبناء.. لذلك يلجأ الوزير العلقمي إلى الأساليب التي لا تخطر على بال, عندما يحاول أن يعقد مع أحد مواليه واسمه ( جابر ) صفقة تشبه الصفقة التي يعقدها ( فاوست ) مع الشيطان في مسرحية غوته الذائعة الصيت.
وتتلخص الصفقة بأن يحلق العلقمي رأس مملوكه جابر, ليخط عليه رسالة موجهة إلى هولاكو يَعدُه فيها بالتعاون على إدخاله إلى بغداد بعد أن يفتح له البوابات, إذا وعده هولاكو أن يكون عامله على البلاد في ظل الاحتلال. أما المكافأة التي سيحصل عليها المملوك جابر حامل الرسالة, فهو وعد من العلقمي له بأن يزوجه من إحدى محظياته واسمها زمردة,
بعد أن عرف العلقمي أن المملوك جابر قد شُغف بها حباً وأنه مستعد من أجلها على فعل المحال.
وشروط الصفقة كانت، ألا يعرف المملوك جابر مضمون الرسالة التي سيخطها الوزير العلقمي على رأسه, وذلك من خلال حبسه بعد كتابة الرسالة حتى ينمو شعر رأسه, وبعد ذلك يتم إرساله بالرسالة لتصل بأمان ودون نقصان إلى الجهة المستقبلة ( هولاكو ).
وكان فرح المملوك جابر لا تسعه الأحداق وهو يحمل الرسالة ويتجاوز الأسوار والبوابات.. وفي حلمه تلتمع الجائزة ( زمردة ) محظية العلقمي التي وعده بها إن أوصل الرسالة.. غير أن الفرح في الحكايات والمسرحيات غالباً ما تكتنفه الكثير من الصعوبات, عندما لا يُقدّر أطراف الصراع نوازع ورغبات بقية الأطراف.
فالرسالة التي كانت في روع المملوك جابر وفي مواجده بأنها ستكون نهاية الأحزان, ونهاية الجوى والحرمان, كانت نهاية الحياة أيضاً.. لأن العلقمي, ورغبة منه في التخلص من علامات اتهامه بالخيانة التي كان المملوك جابر واحدة منها, كان قد تنبه إلى الأمر، وأضاف حاشية صغيرة يطالب فيها بقتل حامل الرسالة.. وهذا ما كان.
لقد كانت الخطيئة الكبرى التي ارتكبها المملوك جابر وهو يجتاز الحصون والبوابات أنه لم يفكر في قراءة الرسالة التي اختطها العلقمي على فروة رأسه.. هذه الرسالة التي أوصلت رأس المملوك إلى حد سيف السياف.
المعارضة في بلادنا.. رغم مشروعية مطالبها بالتغيير الذي يطالب به كل مواطن, يطمح لوطن كريم, وعادل وديموقراطي, وطن حر.. لا وصاية فيه على الكرامة والأحلام والأرواح والحاجات, وطن لا تعيث فيه الفئة القليلة صنوف التعسف والفساد.. هذه المعارضة لم تقرأ التاريخ جيداً, ولم تحاول أن تغلب مصالح الأوطان على مصالحها, عندما أسلمت رأسها للرغبات القاتلة, في استلام السلطة أولاً وثانياً وقبل كل اعتبار.
وقد حصل ذلك عندما أسلمت هذه المعارضة المغامرة رأسها لفكرة التدخل الأجنبي الذي خط رسالته المكشوفة على تلافيف أدمغة أصحابها, فهرعوا لتحقيق أهداف القوى الاستعمارية دون معرفة بالعواقب ودون انتباه للثمن الفادح الذي سيتم دفعه عندما تقوم بما سُخرت له من أعمال.
وبذلك لن تحصل المعارضة على الجائزة الجميلة زمردة, التي ترمز إلى الحب والتفاني في سبيل الأوطان, لأن المعارضة السورية كانت أقل حباً ومعرفة بالطريق الذي يحقق الأهداف, لذلك وبسبب إفراط هذه المعارضات بالثقة بالتدخل الخارجي والغرباء, ستخسر كل شيء.. ولن تتمكن من النهوض كما تفعل المعارضات الوطنية الحقة.. التي لا تغامر في مستقبل أوطانها وشعوبها ولا تبيع أهدافها للطامعين الكبار.
المعارضة الحقة, هي التي تقرأ الرسالة التي خطها العلقمي على رأس المملوك جابر ألف مرة، قبل أن يقترب هولاكو من الأسوار..
لأن الأمم الكبرى الطامعة, لاتزال تعتقد أننا شعوب طارئة, وعلينا الاستسلام أو الزوال.